مع مقالٍ للأب بولص بعنوان: "لنكن كلّنا كرادلة"
الأصدقاء الأعزّاء، مع نهاية هذا العام، 2005، الاستثنائيّ حقّاً من كلّ الوجهات، تودّ جماعة الخليل الرهبانيّة من كلّ قلبها أن تتمنّى لكم عيد ميلاد مشرقٍ وطيّب، وسنةً جديدةً 2006، تبقى طويلاً في ذاكرتنا جميعاً كسنةٍ طيّبة.
احتفلنا منذ وقتٍ قريبٍ، مع أصدقائنا المسلمين، بعيد الفطر السعيد الّذي يعقب صوم شهر رمضان وربّما تصلكم هذه الرسالة في الوقت المناسب لتتمنّوا للجميع عيد أضحى مبارك حين نشترك روحيّاً في الحجّ الإبراهيميّ إلى مكّة.
لم يوفّر هذا العام المشرف على نهايته أيّ شيء علينا تقريباً. فالإنسانيّة التي عانت من عدّة كوارث "طبيعيّة" قد ابتاعت لنفسها العديد من النزاعات الدمويّة بقدرٍ أو بآخر. إنّنا، فيما يخصّ منطقتنا، ما نزال في حزنٍ مستمرٍّ بسبب الحرب في العراق، جارتنا في الشرق، وكذلك الحرب، المتواصلة أبداً، في فلسطين-إسرائيل. سوف تجدون في مكانٍ لاحقٍ من هذه الرسالة محاولةً لتحليل الوضع الاجتماعيّ السياسيّ للمنطقة.
على صعيد حياة جماعتنا الرهبانيّة لا بدّ من ملاحظة عدّة أشياء.
تنتظر قوانين الجماعة في روما موافقة الكرسيّ الرسوليّ بعد جولةٍ أولى من الملاحظات والردود. إنّ هذا الملفّ ليشكّل في الواقع واحداً مع الحوار اللاهوتيّ الجاري حول أفكار الأب بولص فيما يخصّ العلاقة الإسلاميّة المسيحيّة. لقد أخّرت التغييرات الكبيرة في روما في ربيع 2005 مجرى الأمور بيد أنّه باتت لدينا فرصةٌ كبيرة في أن يكون البابا الجديد على اطّلاعٍ على قضيتنا. إنّنا نطلب صلاة جميع أصدقائنا كي يتعمّق دربنا في الكنيسة بالتزامٍ ووضوح. قد تجري الأمور بما يؤدّي إلى الحاجة إلى شهاداتكم، وخصوصاً كمؤمنين، فيما يخصّ الدور الّذي استطاعت جماعتنا أن تلعبه في تطوّر مسير إيمانكم في عالم اليوم. واقع الأمر أنّنا في نقطة تحوّلٍ من التميّيز توصلنا، بمعونة الله، إلى تأسيسٍ راسخٍ لجماعتنا.
كان تطويب شارل ده فوكو Charles de Foucauld في روما، في 13 تشرين الثاني، علامةً مهمّةً لنا. ذلك أنّنا نعتبره واحداً من ينابيع هويّتنا الروحية. واقع الأمر أنّ لويس ماسينيون Louis Massignon، الباحث الكبير في مجال التصوّف الإسلاميّ، والمعترَف بكونه الوريث الأقرب لشارل ده فوكو، هو بالنسبة لنا معلّمٌ وملهم. ذهب أخوانا يعقوب وبطرس إلى روما لحضور التطويب مع يانس وهدى وجهاد، فريق طلاّبنا في اللاهوت في جامعة غريغوريانا Gregorienne (وهي جمعيّةٌ تستلهم مباشرةً من روحانيّة فوكو) ولقد اجتمعوا كي يصلّوا معاً بهذه المناسبة... أمّا في الدير فقد نصبنا صحن الاستقبال كي نتابع مباشرةً شعائر التطويب على شاشةٍ كبيرة في الصالة الجديدة في دير الحايك. وفي الأسبوع التالي للتطويب جمعت أخوات يسوع الصغيرات كلّ الناس الّذين يعنيهم الأمر في صيدنايا غير بعيدٍ عن دمشق لسهرةٍ وقدّاس. كانت جماعتنا ممثّلةً على نحو ٍكبيرٍ هناك وكنّا نشعر جميعاً أنّ الأخ شارل كان يهتم بنا على نحوٍ فعّال.
دخلت خلود، وهي فتاة من دمشق عمرها 27 عاماً من عائلةٍ تنتمي للتقليد البيزنطي، الابتداء في أيلول 2005. بعد أن كانت قد قضت خلال سنتين فتراتٍ طويلةً عندنا. وفّقها الله في مسيرها!
يوسف، فلاّحٌ شابٌّ من قرية معلولا الآراميّة غير البعيدة عنّا، عمره 31 عاماً، هو هنا منذ ستّة أشهرٍ كطالب. ولقد استقبلنا مؤخّراً طالبين آخرين: ريتا، ريفيّة سوريّة عمرها 25 عاماً وهي من طائفة الروم الأرثوذكس ودانيال الّذي أنهى خدمته الإلزامية، وهو مارونيٌّ عمره 23 عاماً كان يتمنّى الدخول في الجماعة منذ عدّة سنوات.
هناك أشخاصٌ آخرون من شتّى أنحاء العالم يهتمّون جدّيّاً بحياتنا. صلّوا من أجلنا جميعاً.
العزيز علينا فريدريك Frédéric ترك الابتداء بعد ثلاث سنواتٍ له في دير مار موسى. لا يسعنا غير أن نشكره من أجل كلّ ما فعله بسخاء من أجل رسالتنا المشتركة (وليس من أجل النحل فقط) ونتمنّى أن نحتفظ بحسن صداقتنا وربّما أن نتعاون كثيراً مع العائلة التي يبدو أنّه سيكوّنها قريباً مع صديقتنا ستيفاني Stéphanie، وهي باحثة أميريكيّة في العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة، لم تكن هي أيضاً عابرة سبيلٍ أمام سحر دير مار موسى.
قضى تيم Tim، وهو إنكليزيّ عمره 40 عاماً يحمل شهادة دكتوراه في علم الاجتماع، تسعة أشهر في مغارة، مجدِّداً تقليد النسّاك. كان ينزل إلى الدير كلّ أحدٍ للاحتفال بالقدّاس وقضاء النهار معنا وأخذ مؤنة الأسبوع. لقد ترك المغارة من أجل عيد الميلاد وعاد إلى إنكلترا في 29 كانون الأوّل. إنّنا لشاكرين له شهادته للقيمة الروحيّة للوحدة ولفاعليّة صلاة الشفاعة.
تودّ أميريكيّة في الثلاثينات من العمر أخذ مكانه، وسنرى الأمر!
عادت إيزمي Ismi وهي موسيقيّة يابانيّة إلى وطنها بعد عدّة أسابيع قضتها معنا. ولكنّها تركت لنا آلة كمانها في الكنيسة.
منذ وقتٍ قريب أنهى أربعةٌ من الناطقين بالفرنسيّة شهر الرياضة الروحيّة الأغناطيّة وهم: رافائيل Raphäel وعمره 24 عاماً وقد تقبّل سرّ المعموديّة ليلة الميلاد، وديان Diane الّتي تكمل مشوار تطوّعها، وريمون Raymond الّذي أفاد كثيراً من المنسكة في أعلى الجبل حيث يساعد كثيراً في الأعمال الزراعيّة، وتيفين Tiphaine الّتي تشارك في حياة الجماعة لستّة أشهرٍ قبل أن تكمل طريقها إلى الهند.
أمّا صديقتنا غويّون Guyonne، الّتي عاشت منذ ثلاث سنواتٍ شهر رياضتها، فقد أمضت كلّ شهر حزيران في تسجيل مقابلاتٍ مع الأب بولص تتعلّق بتاريخه الشخصيّ بقدر ما تدور حول تاريخ الجماعة وحول الأفكار الرئيسة في التزامنا. ولقد تحوّل هذا إلى كتاب راجعناه معاً في مطلع تشرين الأوّل وسيصدر عن دار نشر آلبين ميشيل Albin Michel في باريس في شهر آذار... تمتّعوا بقراءته!
انتهت إقامة عائلة كلود وماتيلد ويونا في القريتين. لا يمنع هذا أنّنا نعتبر هذه التجربة في جوار عائلةٍ مع جماعتنا تجربةً ناجحة. يدفعنا هذا إلى التفكير أكثر حول دور وطرق التعاون بين الحياة الديريّة والحياة العلمانيّة الملتزمة في نفس الأولويّات.
ينتهي خلال العام 2006 التعاون السارّ مع المتطوعتين ديان (في الزراعة والبيئة والتنمية المستدامة) وإيغلانتين Eglantine (المكتبة والسكرتاريا الدولية). هذه التجربة التي استمرّت سنتين تظهر إيجابيّةً جدّاً ونحن نرجو أن يكون لدينا مرشّحون يأخذون مكانهما. لا يمكن على أيّ نحوٍ الاستغناء عن حضور المتطوّعين والموظّفين العلمانيّين المحلّيّين في هذا الوقت الّذي يتواجد فيه معظم أفراد الجماعة في الدراسة. لا بدّ أن نضيف هنا أنّ هذا يجعلنا نكبر في رغبة ووعي أنّنا نريد الارتباط، كرهبانٍ وكعلمانيّين، في علاقةِ شراكةٍ تتمركز حول الأهداف المشتركة.
في الثلاثين من آب وُلِد عبدو، إبن مهيار، فنيّ المعلوماتيّة لدينا. وبذلك بات سعيداً بأن يدعى أبو عبدو.
باتت قضيّة تشتّت قوانا قضيّةً تطرح نفسها، فمن جهةٍ يطرح نموّ تدفّق الزوّار إلى دير مار موسى، الّذي يوشك أن يصبح أسّيّاً، سؤالاً رئيساً بالنسبة للاستقبال والمرافقة. ومن جهة ٍأخرى، لا نتراجع عن البحث عن أماكن أخرى في العالم الإسلاميّ يمكن أن نستقرّ بها. سوف يكون الأخ يانس في إيران في تمّوز كي يبدأ تعلّم اللغة، ويحلم الأب بولص بسنةٍ سبتيّة وبأن يدرس الفارسيّة هو أيضاً.
في القريتين توقّفت قليلاً أعمال التنقيب الآثاريّ ونأمل أن نعود للعمل بحماس في الصيف القادم. أثناء ذلك، استطعنا تحقيق الجزء الأساسيّ من الجناح والمبنى الجديد. ويبدو هذا المبنى جيّداً جدّاً ومتناغماً مع الجزء الأكثر قدماً. في أيلول من العام 2005 بدأنا ببناء كنيسةِ عام 1932 الّتي كنّا قد فككناها سابقاً في إطار الحملة الآثاريّة عام 2004. إنّ الحجر الّذي كان قد رُقِّم يأخذ مكانه الآن. ومروان قسيس الّذي يهتمّ بالأمر لديه خبرةٌ لا بأس بها من عمله في دير مار موسى.
من الناحية الزراعيّة، جرت تجارب على النبتات الطبّيّة والعطريّة. أمّا الإنتاج فسيكون على مركز البيع العتيد في مار موسى تسويقه... وكذلك الأمر بالنسبة للزيتون أيضاً، يسير أمر ذلك من حسنٍ إلى أحسن. يجد الأب يعقوب أنّنا لم نقم بما يجب بعد من أجل تيسير النموّ الاقتصاديّ الدائم للمدينة. تشارك منظّمةٌ حكوميّةٌ هامّة لمكافحة التصحّر الكنيسة المحلّيّة في القيام بتجارب في مجال الرعي على الأراضي الواسعة لدير مار اليان.
يجعلنا تطوّر الأحداث نتخيّل أنّه سيكون لدير مار اليان، على المدى البعيد، دورٌ في الحياة الديريّة أكثر حدّةً من دير مار موسى نفسه حيث خدمة الاستقبال الرسوليّة متطلّبةٌ جدّاً. ودون أن نعرف إلام سيئول الأمر، تزداد منذ اليوم مسئوليّتنا في دير مار اليان ويتقدّم حوارنا مع المطران جورج كسّاب في هذا الاتّجاه.
انتهينا في البناء القديم لدير مار موسى من إكمال الجزء الأساسي من بناء صالة المطالعة الجديدة للمكتبة مع إمكانية الوصول من الداخل إلى مستودع الكتب العام للمكتبة. لا يسعنا إلا أن نشكر مؤسّسة Giorgio Orseri وكذلك l'Oeuvre d'Orient للمساعدة الممنوحة. الشكر أيضاً للمعهد الفرنسيّ للدراسات العربيّة في دمشق لإهدائه منشوراته القيّمة لنا.
"مكتبةٌ" اليوم، مؤسّسةٌ في أزمة. لقد حوّلت المعلوماتيّة أهمّيّة الكتاب، كشيءٍ من ورق، إلى شيء ٍ مختلفٍ عمّا كانت عليه، إنّ الآراء حول هذا الموضوع لشديدة الاختلاف. هل نكون الجيل الأخير الّذي يحتاج بعد إلى الورق؟ إنّنا في الواقع نطبع ما يردنا في البريد الألكتروني كي نستطيع قراءته بسهولةٍ أكبر أمّا من هم أصغر سنّاً منّا فلا يفعلون ذلك. أكتب لكم وأنا أحاور إيغلانتين، المتطوّعة الفرنسيّة في المكتبة، حول هذا الأمر. إنّ حيازة وثائق ملائمة لأولويّاتنا ومرتّبة بطريقةٍ يسهل فيها العثور عليها، هو أمرٌ يسهِّل على نحوٍ عظيمٍ في الواقع البحث والاستشارة. زد على ذلك أنّ مجتمعاً لكلّ فيه حاسبه الشخصيّ المحمول معه دوماً (حتّى أنّ البعض يعتقد بأن يكون هذا الجهاز مطعّماً كعضوٍ من أعضاء الجسم) والمتّصل بالشبكة ليل نهار، لا يبدو أمراً سيتحقّق صباح غدٍ ولا لكلّ الناس. من الصحيح من جهةٍ أخرى أنّ الكتاب يصبح رويداً رويداً شيئاً عاطفيّاً، إنّه يصبح رمزاً، وفي بعض الأحيان عملاً فنّيّاً ووسيلةً للاتّصال بين شخصٍ ما وعالمه. بهذا المعنى، حين يقع كتاب بين أيديكم وتعتقدون أنّه يتضمّن شيئاً يقوله لنا، فأشيروا علينا به، ومن الأحسن أيضاً أن تحملوه معكم في زيارتكم القادمة. لقد فعل الكثيرون ذلك حتّى أصبحت مكتبتنا، أيضاً، ذاكرةً للصداقة ومجالاًَ معنويّاً، بقدر ما هو علائقيّ، واسعاً ومتعدّد الأشكال، يبقى في طور التكوّن. ولا يمنعنا ذلك من تطوير البعد المعلوماتي وحين يصبح لدينا أكثر من خطّ هاتفيّ سيصبح البحث في الشبكة توءماً للبحث على الرفوف.
يتقدّم المشروع الكبير للدير الجديد في الحايك ببطء بسبب التزام فريقنا في العمل على عدّة جبهات.
بعد الإعلان عن المحميّة كان علينا نقل قطيعنا إلى حظيرةٍ أخرى مكان المرآب القديم على بعد 2 كيلومتر إلى الغرب من الدير، غير بعيد عن المنسكة. أُضيف طابقٌ ثانٍ إلى المرآب وتمّ تسوير قطعةٍ من الأرض. اشترينا بضع عنزات من سلالةٍ أكثر إدراراً للحليب من جبل حرمون ونأمل تحسين إنتاج الجبن.
في الوقت نفسه يُعمل على تحضير دكّانٍ فوق المرآب الجديد شرق الدير وقرب موقف السيّارات. وسيلعب هذا الدكّان أيضاً دور المحطّة الأولى في استقبال الزائرين خصوصاً في أوقات التدفّق السياحي.
وصلنا في دير الحايك إلى الطابق الّذي يحوي مغارة الناسك القديمة والّتي ستصبح مُصلّىً Chapelle للدير. هناك رواقٌ كبيرٌ مع صحن دارٍ جميل جدّاً سيكون بهجةً للمتأمّلين كونه يطلّ على منظرٍ رائعٍ للوادي. عمليّاً باتت جميع الغرف الّتي بنيناها مشغولةً على نحوٍ دائمٍ تقريباً. خصوصاً على صعيد الغرف الفرديّة الأمر الّذي يعني أنّ على المشروع أن يتوسّع حالما يتمّ تبليط المطبخ والصالة. حسب برنامجنا ستتيح هذه الدار، إضافةً إلى كونها بيتاً للراهبات الدائمات في الجماعة الرهبانية، الإمكانية المناسبة للنشاطات الروحيّة كالرياضات والدورات الكتابيّة واللاهوتيّة وندوات الحوار الأكثر تعمّقاً واختصاصاً.
الخبر الكبير في كوري، مكان إقامة طلاّبنا في جنوب روما، هو أنّ الأخت هدى قد انتقلت إلى المنزل الملحق بكنيسة سان سالفاتوري. نعبّر عن شكرنا القلبيّ لكاهن الرعيّة المحترم الأب اوتافيانو ولكلّ جماعته الرعويّة الّتي تبنّتنا بروحٍ إنجيليّةٍ مميّزة. أتى الكثيرون من جيراننا في كوري لزيارتنا في سوريا أمّا صداقتنا معهم فهي تستمرّ في النموّ. نأمل أن يتمكّن المعهد المركزي للترميم في روما من إقامة ورشةٍ تعليميّةٍ في كنيسة سان سالفاتوري لإنجاز ترميم داخل الكنيسة وزخارفها. في هذا الوقت نستمرّ في نقل البيت شيئاً فشيئاً والأخت هدى مسرورةٌ جدّاً بالتمكّن من استقبال صديقاتٍ عندها.
في شباط القادم تلحق الأخت المبتدئة ديمة بالأخت هدى لدراسة اللغة حتّى الصيف. وبعد نذورها، في أيلول إنشاء الله، تبدأ الدراسة في جامعة غريغورانا. لقد كانت سنتها الأخيرة في الابتداء مليئةً بالنشاطات: رحلة حجٍّ لاكتشاف أبعادٍ أخرى من العالم الإسلاميّ ومن كنيسة الإسلام (ليس هذا التعبير من عندي بل هو لبطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس لحام في السينودس الأخير للمطارنة في روما) برفقة إيغلانتين في إيران وفي تركيا. كما قضت شهراً في دمشق عند جماعة السفينة (الآرش) للأشخاص الّذين يحملون إعاقاتٍ عقليّة. ولقد أُثني على حضورها بينهم هناك.
ترك الأخ جهاد دمشق قاصداً روما في نهاية الصيف وهو في قلق لأنّ والده كان قد خرج من عمليّةٍ جراحيّةٍ هامّة. ولمّا كان جهاد هو وحيد أبيه فإنّ هذا لا يبسّط الأمور. الحمد لله ولعمّ جهاد فقد تحسّنت حال الأب ويستطيع جهاد الآن أن يلتفت بصفاءٍ أكبر إلى تحضير امتحاناته.
نشارك القلقَ فيما يخصّ العراقعدداً كبيراً من اللاجئين الّذين يبحثون في سوريا عن شيءٍ من الأمان ولا سيّما من أجل أطفالهم. إنّ اللاجئين المسيحيّين هم أكثر من غيرهم من حيث النسبة، ذلك أنّ البلد يمضي، على ما يبدو، نحو طائفيّةٍ متزايدة ونحو تجزئةٍ يصعب أن يجدوا فيها مكاناً ومجالاً للحياة. فهم يحاولون إذاً اللحاق بأقاربهم وجيرانهم الّذين سبقوهم في هجرةٍ إلى شتّى أنحاء العالم. وليس هذا بالسهل دوماً لأنّ الغرب مصابٌ على نحوٍ مرضيّ، وهو أمرٌ مبرّرٌ إلى حدٍّ ما، بخوف الاجتياح وفقدان الهويّة وكذلك بالخوف من عدم الأمان ومن البطالة.
ليس سوى الأخبار السيّئة، فمسيرة الديمقراطية في العراق تبدو، رغم كلّ شيء، منطلقة وعلى نحوٍ ديناميكيّ في نهاية الأمر. ما يهدّد بإفساد كلّ شيء هو من كلا الطرفين منطق المجابهة بلا رحمة بين الحضارات ولعبةٌ منحرفة يريد كل واحدٍ فيها أن يستفيد من لحظة التغيير الكبيرة كي يدفع ببيادقه إلى أبعد ما يمكن، لا بحسب منطق العدالة بل منطق المنفعة.
ثمّة بالتأكيد أحداثٌ جديدة كبيرة. تجد الشيعيّة العربيّة في الأزمة العراقية فرصةً عظيمة لتأكيد ذاتها ولإعلاء شأنها. إنّ خطر الحرب الأهليّة لكبيرٌ جدّاً بل هو قائمٌ فعلاً. في الوقت الراهن تتجنّب القوّات الأميريكيّة، ويا للمفارقة، تعميم حالة الجحيم. لكنّها بمعنىً ما تحضّر لها وتستبقها أيضاً. إنّ من المهمّ أن نسجّل هنا أنّ القضيّة الّتي كانت تُطرَح على الجماعة الدوليّة منذ التسعينات من القرن الماضي، في وجه النظام الإباديّ والتعذيبيّ العراقي، تبقى قائمةً بكلّيّتها اليوم: على المجموعة الدوليّة أن تتحمّل مسئوليّتها في تحرير الشعوب من الأنظمة الخانقة للحرّيّات وبالمشاركة الفاعلة والخلاّقة للشعوب المعنيّة. ليس شأن القوّة الكبرى القيام بذلك لأنّ لهذا أن يولّد موقفاً تصبح المقاومة فيه ضرورة وواجباً تاريخيّاً ذلك أنّ علينا، مع شكر الله على تحريرنا من صدّام باستخدام الأميركيين، الاضطلاع بمسؤولية الحدّ من الخسائر المتولّدة عن الشهيّة الإمبرياليّة التي لا تُضبط. (هناك بالتأكيد مشكلة كبيرة في خيارات وسائل المقاومة التي تتراوح بين اللاعنف السياسيّ تماماً واستراتيجية التفجيرات الانتحاريّة الأكثر هولاً) يبقى أنّ تطوّر الشيعيّة في العراق له أهمّيّة كبرى لأنّه يمكن أن يحدّد أيضاً مسير حزب الله اللبنانيّ (وكلّ المجتمع الشيعيّ اللبناني) كما يمكنه أيضاً أن يقدّم نموذج تطوّرٍ آخر للجمهوريّة الإسلامية الإيرانيّة.
من أجل هذا يتوجّب البدء (ولكن مَن يبدأ؟ الدبلوماسيون أو الساسة أو أصحاب الإرادة الطيّبة؟...) بتيسير تطوّرٍ للسنّيّة العراقيّة مختلفٍ عن التوجّه الحاليّ. يجب كذلك ، في وجه التفتيت الطائفيّ، استعادة الخطاب القوميّ العربيّ، وهو عنصر أساسيّ في وحدة البلد ، خصوصاً إذا ارتبط بهويّة إسلاميّة ذات حضارة ومظهر مسكونيّين.
يرى الأكراد بالتأكيد أحلامهم تتحقّق، مع خطر تخيّل إمكانية حدوث نفس الشيء في تركيا وسوريا وإيران. ليس من السهل أن نطلب من شعبٍ ما أن يتنازل عن تحقيق قوميّته، ولكن ألا يوجد طريق آخر غير طريق الدم والانفصال الإثنيّ من أجل التوصّل إلى ذلك؟
تميل المجموعة الدوليّة، باسم الحفاظ على حالة الاستقرار الدوليّ، إلى رفض مشاريع الإخلال بالاستقرار وقلب منطقةٍ بكاملها. كثرٌ من يظنون بأنّ التوصّل إلى حصول الشعب الكرديّ على حقوقه يمكن أن يتمّ من خلال منطق اتّحادٍ فدراليّ داخل كلٍّ من البلاد الأربعة المعنيّة. الأمر الّذي لا يمنع فيما بعد من تفاعلٍ قويّ بين المناطق الأربع ذات الأغلبيّة الكرديّة. إنّ لهذا المشروع ميّزةٌ عظيمة الشأن تنطوي على عدم دفع المجتمعات الأربعة المعنيّة، في مواجهة المطالبة الفقومية، إلى الوقوف على نحوٍ عنيف ضدّ هذه المطالبة الكرديّة إلى حدّ موقف الإبادة الجماعيّة كما كان الحال في تركيّا وفي عراق صدّام.
إنّ دخول تركيّا في أوروبا وتوقيع الشراكة السوريّة الأوروبيّة وإقامة السلم في العراق على أساسٍ اتّحاديّ، مع ثورةٍ تعدّديّة، كما لو بطريقةٍ غير مباشرة، في المجتمع الإيرانيّ (وهذا الحديث في هذا الوقت هو حديث على مستوى الأحلام والتمنيّات) سيمكّن في نهاية الأمر من تقديم الإطار لحلولٍ دائمة وإيجابيّة لمسألة الأكراد هذه. يمكن بالتأكيد أن تكون هناك محاولاتٌ أطلسيّة لخلق كردستانٍ كبير موالٍ للغرب من أجل قطع المحور الآسيوي التركيّ. لكنّ ذلك لن يمرّ دو حمام دم كبير ولا يمكن أن يضمن أحد أن تبقى هذه الدولة الكرديّة الكبيرة مواليةً للغرب... وأكثر من ذلك فإنّنا نخاطر بعودة قوميّةٍ تركيّة ولكن في هذه المرّة ضمن موقفٍ معادٍ للغرب وربّما إسلاميّ متطرّف.
تطوّرَ الوضع اللبنانيّ بسرعةٍ كبيرة بعد خروج القوّات السوريّة من أراضي لبنان. يبدو لبنان من هنا وكأنّه يبتعد. إنّ الجوارين الجغرافيّ والثقافيّ يبقيان مثل مصيرينا مرتبطين كلّيّاً. أمّا استراتيجيّة تقسيم بلدان المنطقة إلى دويلاتٍ صغيرة، وهي استراتيجيّة محبّبة لدى البرنامج الصهيونيّ، فلا يمكن أن تتحقّق إلا ضمن بلقنةٍ مزمنةٍ وتعقيمٍ ثقافيٍّ للعروبة يميتها مسمّمةً. سوف يفقد المسيحيّون العرب كلّ شيءٍ في هذه العمليّة، فيما عدا دويلةٍ مارونيّةٍ ربّما. لا أريد بقولي هذا أن أعارض كلّ مشروعٍ فدراليّ. فما أن يجري الاعتراف بالانتماءات الطائفيّة الخاصّة وما أن تنمو بطريقةٍ أو أخرى حتّى يغدو أكثر سهولة سماع الأصوات الأكثر قوّةً المعبّرة عن وحدة الحضارة. يسري هذا على لبنان وبطريقةٍ أخرى على سوريا أيضاً، وكذلك بوضوحٍ أكبر على المنطقة بجملتها. من المناسب هنا أيضاً الاستمرار في ملاحظة تطوّر الشيعيّة اللبنانيّة وخصوصاً جدّاً حركة حزب الله الّذي أراه مجروراً بين مشروعٍ ذاتيّ محصورٍ بشيعة جنوب لبنان من جهة ومشروع شيعي شامل للبنان بمجمله كمرحلةٍ وحالةٍ خاصّة من عصرٍ شيعيٍّ في منطقة الشرق الأوسط.
نتأثّر بالوضع في فلسطين إسرائيل كما كان الحال دوماً. إنّ فلسطين كما يتخيّلها السيّد شارون وكما تراها ربّما الإدارة الأميركيّة والمحاربة من قبل أذناب الحركة الصهيونيّة الأكثر تطرّفاً (التي تحاول بوضوح متابعة مشروع تطهير عرقيّ عبر تهجيرٍ شاملٍ للشعب الفلسطينيّ إلى ما وراء نهر الأردنّ) هي دولة غير قابلة للحياة تثبت من خلال ذاتها أنّها لا تشكّل حلاًّ مستداماً. وليس هناك من جهةٍ أخرى من حلٍّ بديلٍ على المدى القصير. لهذا السبب أيضاً فإنّ الجماعات الفلسطينيّة الأكثر راديكاليّةً (الّتي لم تزل تسعى لتحقيق مشروع استئصال الدولة الإسرائيليّة) باتت مستعدّةً لقبول مشاريع هدنة حتّى وإن كانت شديدة الهشاشة.
نتأرجح طوال الوقت بين رجاءاتٍ عابرة وبين تجربة الكلبيّة (مذهب إغريقي يدعو إلى احتقار الأعراف والتقاليد والرأي العام والأخلاق الشائعة وتُستخدَم الكلمة اليوم للتعبير عن التشاؤم السياسيّ والواقعيّة الفوقيّة) في وجه مشاريع متعارضة جذريّاً وكأنّها صورة في مرآة، وغير قابلة للتطبيق والصرف. إنّني لأحتفظ برجاء أن أرى سقوط جدار شارون في يومٍ من الأيّام كما رأيت يوماً سقوط جدار برلين.
في هذا الوقت يجب العمل كي تصبح الـ "bantoustans" (البانتوستان اسم يعني المناطق الضيّقة والمحاصرة التي كانت مخصّصةً للسكّان السود الأصليين، البانتو، في دولة جنوب إفريقيّة العنصريّة) الفلسطينيّة مفتوحةً قدر الإمكان وأن يستطيع سكّان إسرائيل العرب الاحتفاظ، رغم الجدار، بأكثر ما يمكن من الروابط مع ما تبقّى من وطنهم.
يجب، في الوقت نفسه، عمل كلّ ما يمكن لمساعدة الشعب اليهوديّ في إسرائيل فلسطين على كسر حدود الغيتو الثقافيّ الّذي زجّوا أنفسهم به، لكي يمكن الرجوع بالتدريج (لنقل بعد خمسين إلى مائة عام) إلى تبنّي مشروع دولةٍ ثنائيّة القوميّة على كلّ أرض فلسطين إسرائيل متناغمة مع انتماءاتٍ أخرى أكثر اتّساعاً: المجموعة الأوروبيّة الموسّعة، اتّحاد الأمّة العربيّة، مجموعة الدول المتوسّطيّة...
لا بدّ للوقت (لكنّ لا شيء يمكن أن يحدث من تلقاء نفسه، إذ يتطلّب كلّ تطوّرٍ إيجابيّ رأسمالٍ من الكرم والأمانة وسعة التصوّر) أن يجعل ممكناً، ولنأمل ذلك بأقلّ ما يمكن من الدماء المراقة، تطوّراً ثقافيّاً وعقائديّاً من مختلف اللاعبين (الإسلام، العروبة، الصهيونيّة، اليهوديّة، وكذلك أيضاً العلمانيّة الغربيّة وموقف مختلف الكنائس من الأرض المقدّسة) كي يستطيعوا التفكير بشيءٍ آخر مختلف عن المأزق الحاليّ... هنا يكمن شرط العبور من الهدنة إلى السلام.
لقد قمنا في دير مار موسى بجمع وترجمة مجموعةٍ من المقالات الّتي كان قد كتبها المستشرق والمفكّر الفرنسيّ الكبير لويس ماسينيون، الّذي كان شاهداً على أرض الواقع في فلسطين منذ لحظة دخول القوّات البريطانيّة إليها عام 1917، عن "إشكالية الأرض المقدّسة" وصدرت هذه المقالات في كتابٍ عن دار الأولى للنشر تحت عنوان: "إشكالية الأرض المقدّسة، مقالات 1948 ، 1954" ويمكن لمن يهمّه الأمر أن يقرأ في هذا الكتاب المزيد من أفكارنا ورؤيانا حول هذا الموضوع:
Oula for Publishing and Distributing, P.O. Box: 7396, Damascus, Syria
ليست العلاقة بين سوريا وإسرائيل بغريبةٍ عن التطوّر المذكور أعلاه. إنّ أيّ معاهدة سلامٍ بين الدولتين اليوم لا تضمن المستقبل، أقلّه إن لم تترافق بنموٍّ قويّ للتكامل الثقافيّ التعدّديّ وبحوار في المنطقة. سيكون هذا عمل اللاهوتيّين والفقهاء أيضاً وعلى نحوٍ عابرٍ للانتماءات الدينيّة.
لنعد مع ذلك إلى التحدّث قليلاً عن سوريا وعن تطوّرها المتأزّم في هذه الأيّام. نعتقد إلى جانب أغلبيّةٍ من السوريّين أنّه يجب بأيّ ثمنٍ تجنّب حمام دمٍ كالّذي يحدث في العراق. ثمّة توافقٌ على الثقة في الرئاسة الحاليّة للبلد، أي رئاسة الدكتور بشّار الأسد الّذي تقف إلى جانبه زوجه المرهفة والعادلة والمخلصة. بالإضافة إلى ذلك لا يريد السوريّون أن يتخلَّوا عن كرامتهم القوميّة العربيّة وعن الدور الّذي يعتقدون أنّ عليهم أن يلعبوه في المنطقة في إطارٍ يبقى إطار النزاع مع الإمبرياليّة. يرجو السوريّون أخيراً التوصّل سلميّاً وتدريجيّاً إلى إصلاح الوضع وصولاً إلى ديمقراطيّةٍ ناضجة.
إنّ أسوأ ما يمكن أن يحدث هو خسارة السيادة الوطنيّة والدور الإقليمي دون ربح الديمقراطيّة، وذلك على الطريقة الليبية.
إنّ التطوّر الإيجابيّ في سوريا لا يمكن أن يحدث إلا باستثمارٍ للثقة في فعالية حوارٍ واسع للتيّارات الإسلاميّة المختلفة دون استثناء ودون محاباة بين من يُعتَبَرون معتدلين ومن يُفتَرَضون أصوليّين.
ليس السؤال هو معرفة فيما إذا كان يجب التنازل أم لا عن ممارسة المقاومة والمعارضة، لأنّه بدون المقاومة نصبح بسرعة تابعين للشركات البتروليّة الكبرى ذات الشهيّة الاستراتيجيّة والمطامع التوسّعيّة. وبدون المعارضة يبقى البلد رهينةً للمصالح العائليّة وللإقطاعيّة البيروقراطيّة الفاسدة المقنّعة بقدرٍ أو بآخر بالإيديولوجيا. لكنّ السؤال الصحيح هو اختيار نوع من المقاومة ووسائلَ للمعارضة نستطيع أن نأمل معها عبور المخاضة دون أن نغرق. إنّ الوسيلة الأولى هي أن نعمل على خلق توافقٍ بدون استثناء. أمّا اختيار اللاعنف الشفّاف والنشيط فهو موضع اعترافٍ من قبل الكثيرين بكونه الوسيلة الفعّالة الوحيدة. يتمّ ذلك بالحوار مع الديمقراطييّن في كلّ العالم ومع ما يمكن أن يكون قد بقي من المشاعر الاشتراكيّة الأمميّة وكذلك أيضاً مع ما ينبثق من جديد من النزعات الإنسانيّة الدينيّة العالميّة.
اقترحنا هنا في دير مار موسى ندوةَ دراسةٍ حول مشروع محميّةٍ محلّيّة بيئيّة وثقافيّة في الجولان وحرمون نحقّقها بالمشاركة مع الأردنيّين واللبنانيّين. لكنّ وضعها موضع التنفيذ على الأرض من قبل الجانب العربيّ لن يكون مكتملاً إلا في إطار السلام مع الإسرائيليّين ومع مشاركة الفلسطينيّين.
نأمل أن يكون ذلك برهاناً صارخاً، سواء للشعب الإسرائيليّ أو للرأي العام الغربيّ، على حسن النوايا السوريّة والرغبة الحقيقيّة في السلام وحسن الجوار. والمقصود من جهةٍ أخرى تيسير ثقافة سلام هنا في سوريا والعمل على الاعتبارات الضروريّة لمفاوضات اتّفاقٍ دائم. إنّ شعارنا هو: نريد الحدود فسحة لقاء لا مكان نزاع، وذلك بناءً على مبدأ الأرض مقابل السلام.
من جهةٍ أخرى، وفي الخطّ نفسه، يتقدّم مشروع درب إبراهيم بدءا ًمن أورفة وحرّان في ما بين النهرين الأعلى في تركيّا عبر كلّ سوريا (الفرات، حلب، حماة، دير مار موسى، دمشق) ثمّ عبر الأردن وصولاً إلى القدس والخليل في الأرض المقدّسة (لمن أراد معرفة المزيد عن المشروع مراجعة www.abrahampath.org ). في هذا الإطار تمّ الإعلان وبدأ انتظار مرور (لنَقُل بدءاً من 2008 وبالتدريج) مئات آلاف الزائرين في العام في دير مار موسى خلال السنوات القادمة... يتطلّب ذلك جهداً عظيماً من تأمين المؤن ومن التنظيم المرتبط بتعمقنا في لاهوت الضيافة. سوف يكون الحجّاج من تقاليد مختلفة: يهود ومسيحيّون ومسلمون وكذلك من تقاليد وروحانيّات أخرى، إنّه لاستعراض واسعٌ للحركات الروحيّة المعاصرة العابرة للانتمائيّات.
يجعلنا ذلك نفهم على نحوٍ أفضل سبب المشروع الكبير للمحميّة في وادي الدير. لقد أُطلِق المشروع. والمجتمع المحلّيّ مشاركٌ بقوّة به. ترى اللجنة الوزاريّة للمحميّة (ودير مار موسى عضوٌ فيها) أن يُقام المشروع في أسفل الدير على بعد نحو خمسمائة متر باتّجاه الشرق وأن يتألّف من مركزٍ كبيرٍ لاستقبال الزائرين، مع متحفٍ بيئيٍّ وثقافيّ (يهتمّ بهما، بنجاحٍ إنشاء الله أصدقاءٌ آثاريّون من كندا) ونزلٍ ومجمّع للّقاءات والندوات وورشاتٍ للمهن اليدويّة، وكلّ ذلك في حديقةٍ موجّهةٍ لإنتاج المنتجات الزراعيّة التقليديّة لمنطقتنا، ومن الأكيد أن تكون طبيعيّة "bio" (زيتون، عنب، فستق، لوز، تين،...)
الملكُ لله! من المهمّ أن نوضح أنّ محميّة وادي دير مار موسى ليست ملكاً للدير. إنّها ملكُ المجتمع المحلّيّ والدولة السوريّة الّذَين معهما يتعاون الدير كشريكٍ رئيسيّ.
إنّه لمن المفيد جدّاً أن نشيرَ إلى كون اللجنة الوزاريّة للمحميّة تميل لتسليم مسؤولية إدارة نشاط الاستقبال للجماعة الرهبانيّة مع معاونيها. بيد أنّ المركز الرئيس للاستقبال يبقى، وسيبقى، مجالاً عامّاً ينتمي لكلّ الناس.
ينجم عن ذلك، بحسب رأينا، أنّ هذا المجال يجب أن يُنظّم حول قيمٍ ثقافيّةٍ مشتركة (ومن المعروف في مجتمعنا المحلّيّ أنّ ما هو ثقافيّ يُعبّر عنه بقوّةٍ على نحوٍ دينيّ) الأمر الّذي لا يمنع أبداً أن يصير ذلك في حركيّةٍ واسعة من الحوار الّذي يعترف للدير، وللكنيسة المحلّيّة، وللشعب المسيحيّ بمجمله، بدوره وبتميّزه وبقدرته على العمل الإيجابيّ والبنّاء مع المحيط المسلم بأكثريّته.
لقد عبّر لنا العديد من جيراننا ومن زوّارنا عن رغبتهم بأن يكون ثمّة مكان للصلاة الإسلاميّة في إطار هذا الواقع الذي هو المحميّة. يمكن لهذا أن يحدث، ولنقل ذلك صراحةً، على أراضٍ خاصّة قريبة نسبيّاً من الدير، وحتّى على مدخل المحميّة، وذلك دون أيّ استشارةٍ للجماعة الرهبانيّة ودون أيّ اهتمامٍ بمراعاة مشاعر المسيحيّين. إنّ هذا يحدث اليوم في عشرات الأماكن والحالات، في الأحياء المسيحيّة من مدننا وقرانا وليس بالضرورة برضا رعايانا.
منذ بضعة سنواتٍ ونحن نفكّر بهذا الأمر. لم يكن هذا بالسهل دوماً إذ يتعلّق الأمر برموزٍ قويّة تولّد ردود فعلٍ ومشاعر قويّة. كان يمكن أن يكون هناك حلّ لهذه الإشكاليّة في أن نطوّر بالأحرى مجالاتٍ علمانيّة دون أن يكون لها انتماءاتٍ دينيّة... لكنّ هذا صعبٌ بالنسبة لدير: إنّه مكانٌ مقدّس لكلّ الناس وهو يطرح مباشرةً قضيّة الهويّة الدينيّة. في سوريا، والحمد لله، لا يُطرَح هذا السؤال، من قِبَل معظم الناس، على نحوٍ هجوميّ، بل على العكس على نحوٍ تعدّدي وبتكاملٍ وظيفيّ متبادل، أو بكلمةٍ مختصرة، بطريقةٍ حوارية.
من هنا إنّما أتى حلم أحلامنا: لقد نسجنا محلّيّاً هنا اتّصالاتٍ لتحقيق فسحةٍ مقدّسة تكون القلب الرمزيّ للمحميّة. إنّها روضةٌ غنّاء، أكثر جمالاً وعنايةً من غيرها تتوسّطها بركة ماء. في هذا الوسط سيشيّد مسجدٌ وكنيسة: بناءان متجاوران تفصل بينهما روضة فيها بركة. إنّه مشروعٌ معماريٌّ واحد ومدرسةٌ زخرفيّةٌ واحدة، ثمرة حوارٍ عميق بين فنّانين سوريّين وغير سوريّين مع لاهوتيّين وعارفين في تاريخ الفنّ في هذه المنطقة. نرغب بالأبسط، بموادٍ من الجبل، بعملٍ ينجزه عمّال ومهنيّون فنّيّون محلّيّون، ونبحث في الوقت نفسه عن عملٍ منجزٍ بحرفةٍ وعناية، شيءٍ يستطيع أن يدوم كشاهدٍ على الجهد الروحيّ لعصرنا. نرغب إذاً بكلّ الأفكار الجيّدة من كلّ مكان في العالم، لأنّ الفنّ، والثقافة على نحو عام، لا يمكن أن تكون محصورةً ومنغلقة.
سوف يكون هذا الصرح الدينيّ مكرّساً لضيافة إبراهيم. ونتخيّل منذ الآن أنّ الفنّ الزخرفيّ نفسه يمكن أن يمثِّل عبر أيقوناتٍ في الكنيسة، ومع الأسرار المركزيّة للإيمان المسيحيّ، قصّة إبراهيم بحساسيّةٍ موجّهةٍ بقوّة نحو الثقافة العربيّة المسيحيّة، في حوارٍ مع المحيط الإسلاميّ. هذا الصرح الثنائيّ سيعبّر في المسجد أيضاً، عبر الألوان، والأشكال، والكتابات، ومع الأسرار المركزيّة في الإيمان الإسلاميّ، عن دور إبراهيم والمعنى الجامع لدعوته.
منذ بضعة سنوات جرت مشادّةٌ دوليّةٌ كبيرة حول مشروع مسجدٍ أمام كنيسة البشارة في الناصرة. لقد كان مشروعاً هجوميّاً تغذّيه دوافع غامضة ولم يكن كلّ شيءٍ واضحاً حتّى في بعض ردود الأفعال عليه. لم يرَ هذا المشروع النور مع أنّ احترام وتقوى الإسلام لعذراء الناصرة مخلصَين وكريمين.
أمّا هنا في وادي مار موسى فنحن نحلم بالعكس. نريد أن نثبت عبر حياةٍ مشتركة مأخوذة من الحياة اليوميّة، حياة الخبز والملح، بفسحةٍ عامّة يكون المقدّس فيها موضع اعترافٍ كمتعدّد، ومقبولاً في القلوب ومعبّراً عنه بتناغم. من المهمّ إعطاء القيمة المستحقّة للانتماء إلى التقاليد الدينيّة في تعدّديّتها دون محاولة الالتفاف عليها بتأليفيّةٍ سقط، مبهمة وتجارية.
في الوقت نفسه لا يستطيع الإيمان المسيحيّ ولا الإيمان المسلم أن يستسلما إلى كَتوميّةٍ متبادلة. كما لا يستطيعان الاستسلام أيضاً لتجربة الامتصاص المبسّط للغير وللرغبة الطفوليّة لمستقبلٍ بدون الآخر. نبحث عن تناغمٍ ديناميكيّ في الحالة الحاضرة لانتماءاتنا المنفتحة مواهبيّاً على مستقبلٍ أكثر فأكثر تفاعلاً، ومتعدّد الطوائف، لا تكون فيه اختبارات الكونيّ الروحيّ المطلق المنقولة في تقاليدنا ضائعةً في مستنقع خليط الرموز، بل على العكس متفاعلة عبر الحوار وحياة العمل المشترك في أفق تلك اللحظة، ما وراء التاريخيّة، الّتي تجذبنا جميعاً والّتي تنجح في بعض اللحظات في خرق قشرة الزمنيّ لتصبح حاضرةً فيه، ولو محجوبة، في حياة جماعاتنا الدينيّةّ، حيث تتجسّد هذه اللحظة في أمانتنا الوضيعة.
نرغب لهذا كلّه، أن نصبح قادرين على استقبالٍ كبير لهذا المجال الثقافيّ الآخذ في الاتّساع للخبرة الروحيّة المتقاسمة (أفكّر في المجرّة الثقافيّة المسمّاة العصر الجديد galaxie New Age وبالمذاهب السرّانيّة المختلفة ذات الجذور الهنديّة وبحساء ما بعد الرأسماليّة العولميّة) الّتي تريد نفسها إنسانيّةً بحتة والّتي تقع في بعض الأحيان، مدّعيةً على نحوٍ بسيط غير نقديّ تمثيل دعوةٍ إلى ما وراء الدين، في تعصّبٍ غير مقصود لكنّه ليس بريئاً في كلّ المرّات.
نعمل في دير مار موسى على تأسيس دار نشرٍ صغيرة تبغي أن تساهم في النقاش الوطنيّ والإقليميّ مستفيدةً من نصوص محاضراتِ ومناقشاتِ ندواتِنا. يساعدنا في تأسيس وإدارة هذه الدار أديب وهو صديقٌ جاء ليقيم في النبك مع نهاية الصيف الماضي بعد زواجه. وقد كان لنا تجربةٌ سابقة في العمل الثقافيّ حين ترجمنا ونشرنا معاً بالعربيّة في دمشق مقالات لويس ماسينيون حول إشكالية الأرض المقدّسة مذيّلةً بحواشٍ كتبناها سويّاً. وهذه الترجمة لهذه الرسالة هي أيضاً ثمرة هذا التعاون. من جهةٍ أخرى تعمل زوجه، هدى، وهي صديقةٌ للدير منذ سنواتٍ طويلةٍ أيضاً، معنا كمحاسبةٍ.
تساعدنا المعونات الّتي ترسلونها على تطوير المشاريع المختلفة، كي نستطيع الاستمرار في الاستقبال المجّانيّ، كي نكون حاضرين لتلبية حاجات الفقراء الّّذين يلجئون إلى الدير في طلب المساعدة، وكي نعيل بعض الأسر في النبك كما في القريتين. فباسمنا وباسمهم نقدّم الشكر لكم، هنا كتابةً وأمام الربّ في الصلاة.
بعض المنظّمات الّتي ساعدتنا ورد ذكرها في مقاطع أخرى من هذه الرسالة. نتوجّه بشكرٍ خاص لمؤسّسة هانز زايدل الألمانيّة المكرّسة لخدمة التنمية والسلام، والّتي تساعدنا منذ عدّة سنوات في نشاط التكوين الثقافيّ.
قدّم لنا مجلس الشيوخ الفرنسيّ مولّدة كهرباءٍ جديدة ذات قوّةٍ أكبر وضجيجٍ أقلّ. إنّها لمساعدةٌ كبيرة لنشاطنا.
وبالمثل قدّمت لنا جمعيّة توتال دمشق مساعدةً وعلى نحوٍ خاصّ من أجل النشاطات المتعلّقة بالبيئة ونرجو في المستقبل أن تقدّم لنا المزيد في مجال المحميّة والتنوع الحيوي.
تموّل مؤسّستان هولنديّتان بحث دكتوراه لباحثةٍ سوريّة في مجال الإدارة الرشيدة ونمو النباتات الرعويّة المحلّيّة. من الأكيد أنّ في كلّ ذلك إفادة لنشاطنا وللمنطقة برمّتها.
مؤسّساتٌ كنسيّة أخرى، من عدّة أماكن في العالم تساعدنا بانتظام أو على نحوٍ عارض. ولا يبدو لنا أن من الملائم هنا نشر لائحةٍ بها. بيد أن من الأكيد ومن المناسب دوماً أن نذكر امتناننا العميق تجاه تكافلٍ لكنيسةٍ متعدّدة الأشكال محبّة، غيورة وفعّالة.
جماعة الخليل الرهبانيّة.
بمثابة ملحق:
شهد عام 2005 وفاة البابا يوحنّا بولس الثاني وانتخاب البابا مبارك السادس عشر. تشير لنا المساهمة العالميّة في هذا العبور للسلطة المقدّسة إلى مدى عطش هذا العالم، وليس الكاثوليك الممارسين وحدهم، إلى سلطةٍ روحيّة راسخة في التقليد، في حوارٍ مع المجتمع المعاصر، وقادرةٍ على ترجمة تطلّعاتِ وقلق معظم الناس! لا يمنع هذا أنّ الموهبة العظيمة ليوحنّا بولس الثاني تترك الباب مفتوحاً لورشةٍ كنسيّةٍ حسّاسةٍ كبيرة على عاتق خلَفِه. إنّ هذا الأخير كلاهوتيٍّ كبير وكتعبيرٍ عن التخثّر الكاثوليكيّ المحافِظ الجديد، ربّما كان رجل الكنيسة الأكثر مباشرةً في الشروع بتحديث بنية الكنيسة الكاثوليكيّة في حوارٍ مع خبرات الثقافة الديمقراطيّة المعاصرة. إنّ هذا لضروريّ جدّاً بالأولى بقدر ما يوجّه الكثير من الناس أنظارهم برجاء اليوم إلى ساحة القدّيس بطرس.
كانت السنة المنصرمة فرصةً هامّةً لنا جميعاً للتفكّر بهذه الخدمة للوحدة الروحيّة الجامعة الّتي تشعر الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ من واجبها أن تقدّمها. كانت فرصةً أيضاً استطعنا فيها أن نتأمّل في بنية الكنيسة متسائلين من أين أتت هذه البنية وإلى أيّ مدىً يمكنها أن تتغيّر، أن تتطوّر، وأن تُصلِح ذاتها على قاعدة المعطيات الإناسيّة anthropologique واللاهوتيّة،... الجديدة. إنّ التسارع الحاليّ في المعلوماتيّة يمكن بشكلٍ خاصّ أن يتيح منظومةً من التشاور المستمرّ والتفصيليّ يمكن له أن يسهّل على نحوٍ فاعلٍ نموّ المشاركة في الكنيسة الكاثوليكيّة والعلاقة مع الجماعات المسيحيّة الأخرى وكذلك التقاليد الدينيّة الأخرى في إصغاءٍ عميقٍ للناس ولحاجاتهم حتّى الّذين منهم خارج كلّ انتماء.
أودّ أن ألفت الانتباه هنا إلى المؤسّسة، ذات التأثير الهائل، الكارديناليّة (راجع مادّة cardinal في الموسوعة الكاثوليكيّة the Catholic Encyclopedia على الموقع www.newadvent.org ) لقد اهتمّت كلّ الصحافة العالميّة بها واجدةً فيها عقدة سلطةٍ مميّزة. إنّ البنية الجوهريّة في غاية البساطة: البابا يصنع ("يخلق") الكرادلة، والكرادلة يصنعون (ينتخبون) البابا التالي وهذا يقوم بكلّ ما تبقّى. وهذه البنية الموصوفة هكذا يمكن أن تُسمّى بنيةً مغلقة أو قليلة الانفتاح. فمن أين أتت هذه البنية؟ في العهد الجديد، وعلى مدى القرون الأولى للكنيسة، لم يكن ثمّة شيءٌ من كلّ هذا. نعم، لقد كان هناك أسقفٌ لروما، خَلَفٌ للقدّيس بطرس، الّذي مات شهيداً في عاصمة الامبراطوريّة الرومانيّة. وكان هذا الأسقف واعياً، وكذلك كنيسته، لدوره الرئاسيّ في وحدة الإيمان والمحبّة في كلّ المسكونة، أي في الكنيسة الكاثوليكيّة (الجامعة) Universelle (كلمةُ كاثوليكيّة تعني جامعة لكنّ كلمة كاثوليكيّة تشير خصوصاً إلى المعنى المؤسّساتي أي الانتمائي، في حين يشير مصطلح "الجامعة" إلى المفهوم اللاهوتيّ). والكنيسة الجامعة، وهي من جهةٍ أخرى تعدّديّة في الطقوس والتقاليد، كانت تعترف له بهذه الخدمة.
كان لكلّ كنيسة محلّيّة أو خاصّة بناها الخاصّة بالطبع وكان لها مجامعها (أي مجالس اجتماعاتها) الّتي عبرها كان يتمّ تنظيم خدمة السلطة والّتي من خلالها كان يتمّ تأمين الخَلَف لمختلف المراكز الأسقفيّة. ولم تشكّل روما خروجاً عن ذلك. كانت هناك إذاً، وسوف يبقى الأمر كذلك دوماً، عناصر مشتركة تدلّ على فكرةٍ وممارسةٍ مشتركين للكنيسة.
يقول البعض إنّ الكنيسة لم تكن أبداً، وهي لن تصير يوماً، ديمقراطيّةً. وهذا أقلّ صحّةً ممّا يُظنّ. تجد أغلبيّةٌ كبيرةٌ من المسيحيّين في الإيمان أنّ نبع خدمة السلطة في الكنيسة تقوم في مسيحها فيسوع نفسه هو الّذي سلّمها لرسله الّذين بدورهم سلّموها لخلفائهم. هذا هو تماماً معنى ما نسمّيه التسلسل الرسوليّ المقدّس، وبالتالي سرّ الكهنوت. إنّ هذا لا يعني أنّ أسقف (والأسقف من خلفاء الرسل) كنيسةٍ محلّيّة، أبرشيّة، يمكن أن يُنتَخَب أو يحكم دون مشاركةٍ حقيقيّةٍ ومسئولة، سواء من الكهنة الّذين يساعدونه في هذا الحكم، ومن الشعب المسيحيّ، أي العلمانيّين، بما فيهم المكرّسين، الّذين يشكّلون معه الجسد السرّيّ الحقيقيّ ليسوع، أي كنيسته. لقد كان دور السينودس، أي المجمع، دوراً رئيساً دوماً في الكنائس المحلّيّة وهو يبقى كذلك من أجل فعاليّة انتخابٍ وحكمٍ ينبثق عنه. واقعيّاً، يمكن أن تكون طريقة الانتخاب مختلفةً جدّاً من مكانٍ لآخر بيد أنّ هناك عنصران ثابتان على الدوام، حتّى ولو كان ذلك بطرق مختلفة. أوّلهما هو التسلسل الرسوليّ، الّذي تضمنه المجمعيّة الرسوليّة، ذلك أنّ الأسقف الجديد يكون مكرّساً باسم روح المسيح. والثاني هو إجماعٌ وتوافقٌ واستقبالٌ يأتون، ويمكن أن يأتَوا فحسب من القاعدة، أي من جماعة المسيحيّين.
كانت هذه الممارسة للتميّيز في الكنيسة تتحقّق، كما قلنا، بطرقٍ مختلفة. ففي بعض الأحيان كانت مجموعةُ الأساقفة - وفي الأغلبيّة الكبرى من الحالات بعد مشاورةٍ مع الكهنة والشمامسة والعلمانيّين الأهمّ مكانةً، واضعين أنفسهم في إصغاءٍ للروح (الّذي يتكلّم أيضاً عبر عامّة المؤمنين وربّما حتّى عبر المجتمع المحلّيّ والمدنيّ وخصوصاً الفقراء) - هي الّتي تختار الأسقف الجديد. عادةً كان مندوبٌ من الأساقفة يكرّس الأسقف الجديد للخدمة الأسقفيّة في أبرشيّته وبالتالي في سياقٍ من الاستحسان والاستقبال من عموم كنيسته. في أحيان أخرى كان اجتماعٌ عموميّ كنسيٌّ محلّيّ من كهنةٍ وشمامسة ومن الشعب يقترح مرشّحاً للسيامة الأسقفيّة، ثمّ يطلب تكريسه من قبل الأساقفة المجاورين الّذين كثيراً ما يشاركون في الانتخاب أو يحضرونه هم أيضاً.
ومهما بدا ذلك غريباً فإنّ انتخاب أسقف روما، البابا، رئيس الشركة الجامعة، كان في الأصل يجري في الطريقة الثانية وهي الأكثر ديمقراطيّةً بالتأكيد. كان يُتوَقّع، لكونه بطريرك الغرب، أن يجري انتخابه من قبل سينودس موسّع من الأساقفة، كما هو الحال بالنسبة للبطاركة الآخرين في الشرق. لكنّ الحال لم يكن كذلك في الواقع. فلوقتٍ طويل كان علمانيّون من مدينة روما يشاركون في الانتخاب. ومنذ الألف الثاني للكنيسة صار الناخبون هم شمامسةُ وكهنةُ روما إضافةً إلى أساقفةٍ سواء كانوا من البلاط أو من الضواحي... وهؤلاء الناخبون هم الّذين ندعوهم كرادلة. من جهةٍ أخرى، وكذكرى من الماضي، ما يزال الكرادلة حتّى اليوم يقسّمون إلى ثلاث فئات: شمامسة، وكهنة، وأساقفة. وحين "يُخلَقُ" كاردينالٌ اليوم فإنّه، ومن أيّ مكانٍ في العالم كان، يُلقّب باسم إحدى كنائس الرعايا الرومانيّة أو إحدى الكنائس الكاتدرائيّة للأبرشيّات المجاورة.
إنّ هذه المؤسّسة، المركزيّة كلّيّاً في الكنيسة، لم تكفّ عن التطوّر إلى أن أصبحت المجلس الكاردينالي المؤلّف ممّن سمّوا لوقتٍ طويلٍ: أمراء الكنيسة. والتماثل أكيدٌ مع ممالك هذا العالم. فهذا الأمر لا يثير الدهشة أبداً لأنّ البابا كان لقرون عديدة وحتّى عام 1870 الملك أيضاً لدولةٍ واسعة في قلب إيطاليا. كان ذلك من جهةٍ أخرى في العصر الّذي كانت السلطة فيه تنظِّمُ نفسها على نحوٍ شموليٍّ totalitaire كامل في معظم الدول الأوروبيّة وقد تشبّهت المؤسّسة الكارديناليّة بحكومة نخبةٍ تؤمّن الاستمرار والاستقلاليّة للسلطة الحبريّة وبحيث تشارك على نحوٍ كبيرٍ بهذه السلطة.
لا يدهشنا إذاً أن نرى أنّ همّ الاستقلال من السلطات والاهتمامات الدنيويّة، وبالتالي العلمانيّة بالضرورة، من قبل الكنيسة، الغيورة على دورها الأساسيّ وعلى رسالتها العالميّة قد قاد إلى نوعٍ من الانفصال المؤسّساتيّ بين السلطة الكنسيّة وبين الشعب المؤمن. وكان لا بدّ من انتظار المجمع الفاتيكاني الثاني للبدء بقلب المسعى، في اتّجاهٍ تشاركيٍّ جديد.
كان المجلس الكارديناليّ يتّسع بقدر تطوّر وسائل الاتّصالات والنقل، ليشمل رؤساء كنائس المدن الإيطاليّة الكبرى، أي معظم عواصم الدويلات السياسيّة الإيطاليّة السابقة وكذلك رؤساء العواصم الكاثوليكيّة الكبرى في أوروبا. بعد دوال الدولة الحبريّة في القرن التاسع عشر، كانت البنية الكارديناليّة، وكذلك مجمل الكنيسة، تسعى إلى عالميّةٍ متزايدة وعميقة وبالتالي إلى فقدانٍ للسلطة من قبل الإيطاليّين الأمر الّذي انتهى بانتخاب البابا البولونيّ ومن بعده الألمانيّ... بيد أنّه كان من الممكن بسهولة أن يكون أرجنتينيّاً أو نيجيريّاً أو صينيّاً.
إنّ جميع الأساقفة في الكنيسة اللاتينيّة – الّتي تشكّل الأغلبيّة الكبرى في الكنيسة الكاثوليكيّة، إذ يجب ألا ننسى أنّ الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة تحتفظ ببنيةٍ بطريركيّةٍ سينودوسيّة – يُعيّنون من قبل البابا مباشرةً، كما هو الحال بالنسبة لمحافظي المقاطعات الفرنسيّة. يعمل هذا الواقع على ألا نرى تماماً الفارق الجوهريّ بين مجلس الكرادلة وسينودس الأساقفة... إنّ الفرق يبقى في كون الكرادلة يصنعون البابا!
من المهمّ أن نشير إلى أنّ المؤسّسة الكارديناليّة تجد نفسها في ضبابيّةٍ لاهوتيّة. إذ لا نجد في أيّ موضعٍ من كلّ وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني أيّ كلمةٍ لاهوتيّة كنسيّة تشرح لنا ماهيّة هذه المؤسّسة وينطبق ذلك أيضاً على كتاب تعليم الكنيسة الجامعة، الّذي لعب الكاردينال راتزينجر دوراً رئيساً في تأليفه.
يزيد من دهشة هذا الأمر أنّه، في ممارسة حياة الكنيسة، لا يتقدّم الكرادلة على أساقفة أيّ مكانٍ في العالم فقط بل أيضاً على بطاركة الكنائس الرسوليّة الشرقيّة الأمر الّذي كان على الدوام محلّ انتقادٍ من قبل الشرقيّين.
ثمّة فرضيّتان إذاً: أولاهما، أنّنا نجد أنفسنا أمام التباسٍ لاهوتيٍّ كنسيٍّ مستمرّ يعمل على وجوب أن يتقدّم الكرادلة، لمجرّد كونهم ناخبي البابا، وسواء كانوا أساقفةً أو كهنةً أو شمامسة، على كلّ الناس. الأمر الّذي يطرح قضيّةً رئيسةً إذ إنّ اللاهوت الكنسيّ الأكثر أورثوذكسيّةً، أي الأصحّ،ً يعلّمنا أنّ البابا ليس طاغيةً، بل قائداً للكنيسة على رأس مجلسٍ هو مجلس إخوته الأساقفة. والفرضيّة الثانية هي أنّ هناك واقعاً لاهوتيّاً كنسيّاً يختفي في هذه المؤسّسة الكارديناليّة ولا بدّ من اكتشاف هذا الواقع وتوضيحه والتعبير عنه من جديد.
أوضح البابا مبارك السادس عشر لدى انتخابه، وبجلاء أنّه قد انتُخِب من قبل مجلسٍ من مائةٍ وأربعين أسقفاً من كلّ الكنيسة. وقد شدّد ضمنيّاً بذلك على البعد الأسقفيّ المجمعيّ لانتخابه. من جهةٍ أخرى يرى الكثير من اللاهوتيّين أنّ البابا، كرئيسٍ للشركة الجامعة، يجب أن ينتخب من قبل مجمعٍ مسكونيّ من الأساقفة من الكنيسة الجامعة أو من مجلسٍ، أي سينودس، من ممثّلين لهم. لكنّ الأمر الواقع ليس كذلك.
إنّ واقع كون جميع الكرادلة اليوم هم أساقفة، وأساقفة لمقاعد هامّة، لا يغيّر من جوهر القضيّة. ففي الأصل، ورمزيّاً حتّى اليوم على الأقلّ، تنتخب جماعة الكنيسة الرومانيّة بشمامستها وكهنة رعايا مدينتها وأساقفة أبرشيّات ضواحيها، البابا. يعني هذا أنّ وجهاً أساسيّاً من أوجه الوزن اللاهوتي الكنسيّ للمؤسّسة الكارديناليّة ينبع في الأصل من أهمّيّة ما يمثّله في الأساس الشعب المسيحيّ من رجالٍ ونساء في الكنيسة المحلّيّة. والحال، فإنّنا نفهم على نحوٍ أفضل بهذا الشكل أنّ اللقب الأوّل للبابا، الأكثر أصالةً هو أسقف روما.
لا يمنع هذا أبداً، وخصوصاً اليوم، أن يكون هناك دوراً مركزيّاً لجماعة الكنيسة العالميّة، كما لجماعة كافّة الأساقفة في انتخاب راعي قطيع المسيح بأكمله.
منذ طفولتي كان يجري الحديث، على قاعدة تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، عن رسالة العلمانيّين وعن المشاركة الكاملة لكلّ مسيحيّ في سرّ المسيح وكنيسته، المرسَل لينقذ العالم (راجع Lumen Gentium 33 ) إنّ الكنيسة، شعب الله، هي كلّها رسوليّة، وإذا كان الأساقفة هم خلفاء الرسل فإنّ هذا لا يلغي شيئاً من رسوليّة الشعب المسيحيّ. يُقالُ للمسيحيّين في صفوف التعليم المسيحيّ: "كونوا جميعاً شمامسةً حقيقيّين، خدّاماً في المحبّة والبرّ، كونوا جميعاً كهنةً يعملون على تقديس وتكريس محيط حياتهم لله. كونوا جميعاً رسلاً. كونوا رعاةً. كونوا مسؤولين. كونوا "مراقبين" وبالتالي "أساقفةً". كلّ واحدٍ في عائلته، في محيطه وفي رسالته... أسهِموا بإيجابيّةٍ في تعاونٍ خلاّقٍ في جماعاتكم الكنسيّة وفي الجماعة الواحدة للكنيسة الكاثوليكيّة..." وإذاً لماذا لا يُقالُ لهم أيضاً: "كونوا جميعكم "كرادلةً"، أشخاصاً يجيدون ممارسة خدمة الإصغاء والتمثيل وكذلك التعاون المخلص مع الشخص المنتَخَب ليرئس وحدة العقيدة والمحبّة"؟ على الكرادلة أن يكونوا، والشكر لله على كونهم غالباً كذلك، نماذج لكلّ مسيحيٍّ جامعيّ صالح. وهم إنّما لهذا السبب يرتدون الأرجوان تذكيراً بالشهداء والشهيدات في كنيسة روما.
يبدو لي أنّ المؤسّسة الكارديناليّة تلخّص أساساً، إذا جاز القول، فكرةً عن الكنيسة الّتي مع احترامها الكامل لدور ولقيمة الخلافة الرسوليّة وللكهنوت الوظيفيّ المقدّس، تعرف كيف تعبّر (أو على الأقلّ عرفت كيف تعبّر في الأصول) عن القيمة العميقة لمشاركة كلّ الإكليروس في المجمعيّة، وعن بعد للكنيسة المحلّيّة كجماعة ممثِّلةً بذلك المسؤوليّة والمشاركة الفعّالة مع كلّ شعب الله.
لا يخصّ ذلك كنيسة روما وحدها، كنيسة الكرادلة والبابا. بل على العكس، ثمّة هنا بعدٌ أساسيّ لحياة بنية الكنيسة المحلّيّة كشعبٍ لله، معبّر عنه بشكلٍ أكثر وضوحاً ربّما. لقد شدّد المجمع الفاتيكاني الثاني على أهمّيّة هذا البعد وعلى دوره. لقد أعاد هذا المجمع اكتشاف وطرح هذه الأهمّيّة وهذا الدور على جميع المسيحيّين، في حين أنّ الكنائس الشرقيّة الّتي بقيت من الناحية البنيويّة سينودوسيّة، قد حافظت جزئيّاً على هذه البنية الأصليّة خلال كلّ تاريخها.
إنّ مسيحيّاً يكتشف بعده "الكارديناليّ" يصبح شخصاً يعرف كيف يجمع، في حياته مع المسيح، بين مسؤولية كاملة على الصعيد المؤسّساتيّ، كما على الصعيد المواهبيّ والنبويّ، وبين حسٍّ مرهف ولاهوتيّ للانتماء إلى جماعة شعب الله، حيث لكلّ واحدٍ مكانه ودوره وحيث يُسمع صوت الجميع، بل حيث يُسمع أكثر من كان بين صغار الملكوت، الفقراء والمهمّشين (كما كان حال الأرامل اللّواتي كنّ يحظين بالكثير من الإصغاء في كنيسة أعمال الرسل الأولى).
يعرف المسيحيّ، أو المسيحيّة، كيف يكون "كاردينالاً" حين يستطيع أن يجمع بين التزامٍ قويٍّ بدافعٍ أنجيليّ في الكنيسة المحلّيّة، مع احتفاظه بنظرةٍ، برؤيةٍ، وبممارسةٍ للشركة، وبخدمةٍ للوحدة الجامعة حقّاً: إنّه يكون جامعاً في مكان عيشه بمقدار ما يعرف كيف يكون محلّيّاً، خصوصيّاً وتعدّديّاً في ما هو جامع. يبدو لي أنّنا إذا فهمنا على هذا النحو الديناميكيّ دور الكرادلة بالنسبة لجماعة شعب الله، فسوف تنجم عن هذا الفهم قدرةٌ متجدّدةٌ للمسيحيّين على الإصغاء والخدمة والاعتراف بـ، وعلى إعطاء قيمة، وبكلمةٍ واحدة على محبّة جماعة الأسرة البشريّة. ذلك أنّ الجماعة المسيحيّة هي من أجل وحدة وتناغم الأسرة البشريّة، تكرّس نفسها لخدمة هذه الوحدة وتجسّدها مسبقاً.
أحلم بكنيسةٍ جامعة وبهذا المعنى كارديناليّةٍ بالكامل.
إنّني بالطبع أتكلّم بطريقةٍ لا تخلو من المبالغة عن كنيسةٍ كلّها كارديناليّة وذلك انطلاقاً وقياساً على رسوليّة كلّ الكنيسة. ولهذا السبب فإنّني أستخدم هذا التعبير هنا في الواقع دون أن أقترحه كمصطلحٍ لغويٍّ معترفٍ به. بل على العكس، أريد بمعنىً ما أن أخلع عنه صفة القداسة المبالغ بها كي أتجاوزه في إعادة اكتشافٍ للتآزر بين التقليد الرسوليّ (المحمول على عربة الكهنوت الوظيفيّ والخدمة السينودسيّة للسلطة في الكنيسة وخدمة البابا البُطرسيّة) وبعد الجماعة والمسؤولية المتقاسمة للشعب المسيحيّ.
أحلم بكنيسةٍ يكون دور رجل الإكليروس فيها وفي كلّ الأوقات في خدمة الازدهار الربيعيّ للمواهب النبويّة والكهنوتيّة والملكيّة (كلمة ملكيّة إنّما تترجم اليوم بالمفهوم الديمقراطيّ للمشاركة والمسؤولية السياسيّة والبيئيّة والاجتماعيّة، الخ..) لشعب الله المجتمع على الدوام حول مائدة القربان المقدّس.
أحلم باختيارٍ للشمامسة والكهنة يكون التعبير الحقّ عن الشركة، البالغة والمسؤولة كلّيّاً، بين جماعة الرعيّة وأسقف الأبرشيّة، الممثِّل لخدمة سلطة المسيح، يساعده في ذلك الإكليروس.
أحلم بانتخاباتٍ أسقفيّة، في كلّ مكانٍ في العالم، فيها مشاركة فعّالة للشعب المؤمن والإكليروس. إنّ تعبير القيادة الأبرشيّة سيصبح إذاً في طاعةٍ للروح، الّذي يتكلّم أيضاً في الوسط الثقافيّ والمتعدّد الأديان الّذي تعيش وسطه الكنائس والّذي إليه إنّما أُرسِلَت. يجب أن يكون ذلك متناغماً مع دور الكنيسة المحلّيّة أو البطريركيّة ومع السلطة النهائيّة الممثّلة بالكرسيّ الرومانيّ المقدّس الّذي يؤلّف على الدوام، بمعونة الله، ضماناً للاستقلال، للأمانة، وللجامعيّة، بالنسبة للكنائس المحلّيّة.
أحلم بأن يكون هذا صحيحاً في كلّ حياة الكنيسة. أعتقد أنّه ممكنٌ لجميع المسؤوليّات من الأكثر محلّيّةً إلى الأكثر جمعيّة. أعتقد أنّ الكرادلة يمكن أن يكونوا بالأغلبيّة رؤساء السينودوسات الأسقفيّة الكبرى، الوطنيّة والقارّيّة، مختارين عبر ممارسة الشركة بين السلطة المحلّيّة والجامعة دون تناسٍ أبداً لصوت الشعب ولصراخ الفقراء.
أحلم أن يجري اختيار البابا المقبل من قبل البطاركة والكرادلة، الّذين قبل أن يقوموا بالرحلة إلى روما، يستطيعون أن يضعوا أنفسهم في موقف خدمة روح الله الّذي يتحدّث في شعوبهم، ذلك أنّ خصوصيّة السلطة الإنجيليّة إنّما تقيم هنا. يأتون روما إذاً ويضعون أنفسهم مرّةً أخرى في إصغاءٍ لأبناء رعايا وأحياء المدينة، الّتي يحملون اسمها، والّتي سينتخبون أسقفها، ذلك أنّ هذا الشعب المؤمن في روما يحمل دعوة أن يكون متضامناً كلّيّاً مع الخدمة الجامعة لرئيسه الروحيّ.
ربّما هي أحلامٌ بالطبع. يخمّن البعض أنّ كنيسة اليوم تعود إلى موقفٍ أبويّ وإلى اهتمامٍ إكليروسيّ بحت في ترك العلمانيّين، وبالتالي وعلى نحوٍ جذريّ النساء، خارج مراكز القرار. أكثر من ذلك، وعلى الرغم من أنّ التاريخ القريب والمعاصر للاّهوت الكاثوليكيّ قد شدّد كثيراً على قيمة المجمعيّة والمشاركة والتعاون واحترام الخصوصيّات. فإنّ هناك ما يسوّغ خشيةً من راديكاليّةٍ تدعو إلى مركزيّة رومانيّة تيّسرها سرعة وشموليّة وسائل الاتّصالات: في الماضي كان يُقال إنّ روما بعيدة، فكان يمكن أن يُقال بالاحتفاظ ببعض الذاتيّة... أمّا اليوم فروما في كلّ مكان. يُخشى أن يُنتَخب البابا المقبل، ولمرّةٍ أخرى، من قبل جماعةٍٍ من الأشخاص الّذين اختارهم وعيّنهم أسلافه: وهم أمراء الكنيسة أكثر من كونهم شمامسة وكهنة روما وأساقفة شعب الله.
يرى العديدون أيضاً في انتخاب البابا مبارك السادس عشر البابا اللاهوتيّ، أحد المفكّرين الكاثوليكيّين الّذي شارك في تحقيق المجمع الفاتيكاني الثاني، الرجل الّذي سيكون قادراً على القيام بخطواتٍ مصيريّة حقّاً في تحديث بنية الكنيسة، في انفتاحٍ لاهوتيٍّ حقيقيّ على حاجات وبؤس وتطلّعات و كذلك على ثروات الإنسانيّة اليوم. لربّما يكون هو الرجل الّذي سيستطيع تنظيم مجمعٍ آخر مسكونيّ حقّاً!
لنحتفظ دوماً بالرجاء، فأوقات الله غير أوقاتنا. يتعلّق هذا بمسؤولية كلّ شخص في تجنّب أن تقع الكنيسة الكاثوليكيّة من جديد مريضة الفئويّة والانطواء على الذات. يتألّم على الدوام ابن الله في جسده الكنيسة. ثمّة تواضع (كينوسيس) روح الله في واقعنا الكنسيّ اليوميّ. فلنتعرف على ذلك قبل كلّ شيءٍ في أخطائنا وفي ادّعاءاتنا الفرديّة والجمعيّة. لكنّنا نؤمن بالقيامة في نهاية الأمر فهي قدرنا كتلاميذ ليسوع الناصريّ منذ حاضر تاريخنا.
لسوف يُدهِش البعض أنّني قد جمعت معاً الجغرافية السياسيّة الشرق أوسطيّة وأخبارنا العائليّة مع تأمّلٍ مغامر في لاهوت الكنيسة. فهل نجحنا في أخذ "الكاردينال" نموذجاً للمؤمن، الّذي بتجذّره الكامل في جماعته التاريخيّة المحلّيّة وفي عمق تقليده، وكذلك بتكافله الكلّيّ مع هذه الجماعة، يكون قادراً مع ذلك على رؤيا جامعة سخيّة وملتزمة؟ إذا كان الجواب نعم فسيكون من الأسهل اكتشاف العلاقة بين رؤيانا، بالنظر إلى رسالة الكنيسة الجامعة، والتزامنا المحلّيّ في كلّ أبعاده ووجوهه.
أريد أن أسجّل هنا امتنان جماعتنا لمطراننا جورج كسّاب، ولأعضاء مجلسه الكهنوتيّ وكذلك لأبناء أبرشيّة السريان الكاثوليك في حمص وحماة والنبك. إنّنا نعيش معهم خبرة إصغاءٍ ومشاركة ومسؤولية متبادلة تضعنا في أملٍ كبير.
عليّ أن أعتذر عن كون هذه الرسالة قد أخذت منحىً طويلاً جدّاً وشخصيّاً جدّاً بحيث لم تعد كثيراً رسالة جماعتنا الرهبانيّة إلى أصدقائها. إنّني أنا بولص من كتبها، بمساعدة إيغلانتين، بيد أنّ عليّ أن أنقل لكم في النهاية المشاعر الحارّة لكلّ أعضاء الجماعة، طالباً لكلٍّ منكم في عيد الميلاد هذا خبرةً شخصيّةً حقيقيّة لحنان الله.
الأب بولص.