منهجية التأمل العقلي " الهيسيكاستي "( صلاة القلب ) طريقة الصلاة الهادئة بحسب تعليم الأب سيرافيم من جبل آثوس .
جان إيف لولوب
عندما وصل أحد الفلاسفة الفرنسيين الشبان إلى جبل آثوس كان قد قرأ بعض الكتب عن روحانية الكنيسة الأورثوذكسية ولاسيما الفيلوكاليا الصغيرة وهو مجمع للآباء عن صلاة القلب وأيضًا رواية السائح الروسي وكان قد شعر بالانجذاب دون أن يقتنع فعلاً وأثناء قداس في باريس شعر برغبة روحية في أن يذهب لجبل آثوس لبضعة أيام بمناسبة عطلته في اليونان حتى يحصل على مزيد من المعلومات فيما يخص الصلاة ومنهجية التأمل لدى الهدوئيين "Hésichast" . هؤلاء الصامتين الباحثين عن الهدوء أي السلام الداخلي .
من الطويل أن نتحدث كيف حصل له أن يلتقي الأب سيرافيم الذي كان يعيش في صومعة قريبة من دير القديس بنتليمون "S.Panteleimon"، " دير الروس " كما يسميه اليونانيون .
نقول فقط أن الشاب الفيلسوف كان يشعر بشيء من التعب . لم يجد الرهبان على مستوى كتبهم إذ كان قد اطّلع على بعض الكتب عن التأمل والصلاة ولم يكن قد مارس الصلاة أو طريقة من طرق التأمل, والذي كان يبحث عنه ويطلبه، ليس حديثًا عن الصلاة والتأمل بل إدخال، أن يسمحوا له أن يعيش ويتذوق من الداخل من خلال الخبرة وليس الشيء المتوارث بالسماع .
الأب سيرافيم كان له سمعة مشبوهة لدى رهبان محيطه، البعض كانو يتهمونه بالارتفاع عن الأرض أو العواء في الليل والبعض يعتبره فلاحًا جاهلاً والبعض مرشدًا روحيًا حقيقيًا موحى إليه من الروح القدس وقادرًا أن يقدم إرشادات عميقة ويميز ما في القلوب .
عندما وصل الزائر إلى باب الصومعة نظر إليه الأب سيرافيم بطريقة غير مقبولة من الرأس إلى القدمين خلال خمسة دقائق دون أن يوجه له أي كلمة . إذا كان هذا الفحص لم يجعله يهرب فيمكن له من بعد أن يسمع إحدى التحليلات القاسية للراهب .
- أنت إنه لم ينزل إلى ما تحت الذقن .
- وأنت لاداعي للكلام لم يدخل البتة .
- أنت، غير معقول، إنه دخل إلى الركبتين .
طبعًا كان يتكلم عن الروح القدس وعن حلوله الأكثر والأقل عمقًا في الإنسان، بعض المرات في الرأس ومرات في القلب أو في الأحشاء . هكذا كان يميز قداسة زائريه من درجة تجسد الروح فيهم . الإنسان الكامل، الإنسان الذي تحول وتأله بالنسبة له، هو الإنسان الذي يسكن فيه بكليته حضور الروح القدس من الرأس حتى القدمين . " هذا لم أره كاملاً إلا عند المرشد سلوان - قال له - كان حقًا رجل الله مليء بالتواضع والجلالة ." لم يحصل الفيلسوف الشاب على ذلك فالروح القدس قد توقف أو لم يجد ممرًا عنده إلا إلى مستوى الذقن.عندما طلب إلى الأب سيرافيم أن يحدثه عن صلاة القلب وعن الذكر الطاهر بحسب الأب إيفانتكوس"Evagre"بدأ الأب سيرافيم بالنباح، ولكن هذا لم يخفف حماس الشاب، فألح، عندها قال له الأب سيرافيم قبل أن نتكلم عن صلاة القلب تعلم أن تتأمل كالجبل، وأشار إلى صخرة عظيمة وقال : " إسألها كيف تصلي، ثم عد إليّ ".
التأمل كالجبل :
وهكذا ابتدأ التلقين الحقيقي لمنهجية التأمل الهدوئي بالنسبة للفيلسوف الشاب . الإرشاد الأول يخص الثبات والتأصل في الموقف الصحيح . فالنصيحة الأولى لم تكن على المستوى الروحي بل الجسدي . " اجلس " ، أن يجلس كالجبل هذا يعني أن تأخذ وزنًا، ثقلاً في الحضور، وقد عانى الشاب في الأيام الأولى من صعوبة البقاء هكذا لا يتحرك . الساقان متقاطعتان والحوض أعلى بخفة من الركبتين، وبهذا الوضع وجد ثباته .
ذات صباح شعر فعلاً ما المعنى للتأمل كالجبل . لقد كان هنا بكل ثقله لا يتحرك . كان واحدًا مع الجبل صامتًا تحت الشمس . إحساسه بالزمن قد تغير تمامًا، الجبال لها زمن آخر إيقاع آخر .
أن تجلس كالجبل هو أن يكون أمامك الأبدية هذا هو الموقف الصحيح للدخول في التأمل، أي أن تدرك أن الأبدية فيك وخلفك وأمامك، قبل أن تبني كنيسة يجب أن تكون حجرًا وعلى هذا الجحر وعلى صلابة الصخر هذه والتي لا تتغير سيتطيع الله أن يبني كنيسته ويجعل من جسد الإنسان هيكله .
هكذا فهم معنى كلمة الإنجيل " أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي ".
بقي هكذا عددًا من الأسابيع، وأصعب ما كان عليه هو أن يظل هكذا لمدة ساعات دون أي نشاط، كان عليه أن يعود ليتعلم كيف يوجد بكل بساطة وبدون غاية أو سبب، التأمل كالجبل كان تأمل الوجود نفسه مجرد وجود قبل كل فكرة كل متعة كل ألم .
الأب سيرافيم كان يزوره كل يوم وكانا يتشاركان البندورة وبعض حبات الزيتون، فبالرغم من الطعام الخفيف ازداد وزن الشاب، مشيته أصبحت أكثر هدوءًا كان يبدو وكأن الجبل قد دخل في جلده . تعلم أن يأخذ وقته أن يستقبل المواسم والفصول أن يبقى صامتًا وهادئًا كالأرض، تارة قاسية وجافة، وتارة مثل جانب التل المنتظر الحصاد .
التأمل كالجبل قد غيَّر إيقاع تفكيره، قد تعلم أن يرى دون أن يحكم وكأنه يعترف بحق الوجود لكل ما على الجبل .
ذات يوم اعتبره الحجاج راهبًا من الرهبان وقد تأثروا من نوعية حضوره، طلبوا منه بركة فلم يجبهم بشيء، غير متأثر كالصخر . وعندما سمع الأب سيرافيم بذلك في المساء، قام بضربه فأخذ الشاب بالبكاء .
ها حسنًا، يقول الأب سيرافيم، ظننتك أصبحت غبيًا كحصى الطريق .... التأمل الهدوئي هو برسوخ وثبات الجبال ولكن الغاية منه أن تجعل من نفسك إنسانًا حيًا وليس شيئًا ميتًا .
أخذ الشاب من ذراعه وقاده إلى آخر البستان، حيث بالإمكان رؤية الزهور بين العشب البري . الآن ليس عليك أن تتأمل كجبال جاف عاقر بل أن تتأمل مثل شقائق النعمان . ولكن لا تنسَ الجبل .
التأمل مثل شقائق النعمان :
وهكذا تعلم الشاب أن يزهر فبالنسبة له التأمل كان جِلسة " قاعدة " هذا ما علمه إياه الجبل ولكن التأمل هو أيضًا التوجه وهذا ما تعلمه إياه الآن الشقائق، أن يتجه تجاه الشمس، أن يتجه من عمق أعماقه إلى النور . أن يصبح ذلك شوق دمه بكامله وكل حيويته ونُسْغِه .
هذا التوجه تجاه الجمال تجاه النور، كان يجعله أحيانًا يحمر كالشقائق . كأن هذا النور البهي " نشيد النور لمار أفرام " كان جمال ونور نظرة تبتسم له وتنتظر منه شيئًا من العطر الذكي .
تعلم أيضًا في مدرسة الشقائق أنه حتى يتوجه توجهًا صحيحًا لا بد أن يكون للزهرة ساق مستقيمة، فبدأ يقوِّم عموده الفقري . هذا كان يسبب له شيئًا من الصعوبة لأنه قرأ في بعض نصوص الفليوكاليا بخصوص التأمل أنه على الراهب أن يكون مائلاً قليلاً .
أحيانًا حتى مع الألم، كان يوجه نظره إلى القلب والأحشاء .
سأل الأب سيرافيم بعض الشروحات، فنظر إليه بشيء من المكر وقال : " هذا كان عند أبطال الماضي الممتلئين طاقة، فكان لا بد من تذكيرهم بالتواضع وبوضعهم البشري، لذلك كانوا يميلون قليلاً أثناء التأمل وهذا لم يسبب لهم أي ضرر . ولكن أنت بحاجة إلى الطاقة فجلس ظهرك، كن ساهرًا، اتجه باستقامة نحو النور، ولكن دون تكبر، وإذا لاحظت الشقائق جيدًا فهي لن تعلمك استقامة الساق فحسب بل أيضًا شيئًا من المرونة، بحسب ما تدفعها الرياح، وبالتالي أيضًا تواضعًا عظيمًا .
بالواقع تعليم الشقائق كان أيضًا بكونها فانية وضعيفة كان عليك أت تتعلم كيف تزهر وكيف تفنى .
لقد فهم الشاب بطريقة أفضل كلمات النبي أشعيا : " كل بشر كالعشب في ضعفه، عشب الحقول، العشب ييبس الزهر يفنى فالأمم كقطرة ندى على حافة آنية، قضاة الأرض يزرعون نباتهم له جذور بالأرض ثم ييبسون وتأتي العاصفة لتذروهم كالهشيم .( أش 40 ).
الجبل أعطاه الإحساس بالأبدية، الشقائق تعلمه ضعف الزمن، أن تتأمل هو أن تعرف الأبدي في وميض اللحظة، لحظة مستقيمة موجهة توجيهًا صحيحًا . وأن تزهر في الوقت الذي أعطي لك للإزهار أن تحب في الوقت الذي أعطي لك للحب مجانًا دون سبب . لأنه لمن تزهر الشقائق؟ ولماذ؟ هكذا كان يتعلم أن يتأمل دون غاية دون مصلحة، لأجل متعة الوجود وحب النور، الحب جزاء نفسه كان يقول القديس برناردوس، الوردة تزهر لأنها تزهر دون سبب كان يقول أنجيلوس سلاسيوس . إن الجبل يزهر في الشقائق كان يفكر الشاب . كل الكون يتأمل فيّ، فلأحمرنّ فرحًا في هذه اللحظة لحظة حياتي . هذه الفكرة كانت دون شك زائدة عن الحد، الأب سيرافيم أخذ يوبخ الفيلسوف، ومن جديد أخذه من ذراعه، عبر طريق وعرة حتى شاطئ البحر، في فج صغير مقفر، وقال له توقف عن اجترار فهم معنى الشقائق كالبقرة، فليكن قلبك بحري، تعلم أن تتأمل كالمحيط .
التأمل كالمحيط :
اقترب الشاب من البحر، كان قد اكتسب جلسة صحيحة وتوجهًا مستقيمًا . كان بوضع سليم صحيح للصلاة . ما الذي ينقصه؟ ما الذي بإمكان الأمواج أن تعلمه إياه؟ هبت الرياح وأصبح المد والجزر أكثر عمقًا، وهذا أيقظ فيه ذكريات المحيط . لقد نصحه الراهب الشيخ بالتأمل كالمحيط وليس كالبحر، ولكنه كيف عرف أن الشاب قد قضى ساعات طوال عند شاطئ المحيط الأطلنطي ولا سيما في الليل، وأنه كان يتقن فن التناغم بين نَفَسه وتنفس الأمواج الضخم . شهيق زفير، ثم هل أقوم أنا بالتنفس أم يقوم آخر بشهيقي وزفيري، إني أسلم لمن يذهب بي وبالنَفَس كمن يسلم نفسه للأمواج، هكذا الخشبة التي تؤخذ بإيقاع تنفس المحيط . قد أخذه هذا مرارًا إلى حالات نفسية غريبة ولكن هذه القطرة التي كانت قديمًا تغرق في البحر الآن تحافظ على شكلها ووعيها، هل هذه هي حقيقة موقفها ووضعيتها؟ هل هذا من تأصله في الأرض؟ لم يعد مأخوذًا كليًا بإيقاع تنفس المحيط . قطرة الماء - هذه التي يشكلها المتأمل - حافظت على هويتها، بيد أنها عرفت أن تكون واحدًا مع المحيط . هكذا تعلم الشاب . أن تتأمل هو أن تتنفس بعمق، أن تترك صعود وهبوط النفس يجري بارتياح، ويجد الوجود ( أي أن يكون ).
تعلم أيضًا أن إذا كان هناك أمواج على السطح فإن عمق المحيط يبقى هادئًا . الأفكار تذهب وتأتي وتشكل الزبد، ولكن عمق الكائن يبقى هادئًا، أن تتأمل انطلاقًا من الأمواج التي نحذفها ونتجاوزها إلى أن نتجذر ونتأصل في عمق المحيط . كل هذا أصبح كل يوم أكثر صحة وحيوية فيه، وتذكر كلمات أحد الشعراء التي قرأها في وقت مراهقته . " الوجود بحر يمتلئ أمواجًا دون انقطاع ومن هذا البحر لا يختبر الناس العاديون سوى الأمواج، انظر كيف أنه من أعماق البحر يظهر عدد لا يحصى من أمواج على السطح، بينما البحر يبقى مستترًا بالأمواج ."
اليوم بدا له البحر أقل استتارًا بالأمواج، كانت وحدة الوجود تظهر بقوة أكثر من تعددية الوجود دون إلغاء التعددية، لم يعد بحاجة أن يضع العمق والشكل، الظاهر والباطن في تناقض . كل هذا شكّل محيط الحياة الأوحد .
ألم يكن في عمق نَفَسه الروح؟ نَفَس الله الكبير؟
قال له الراهب الشيخ سيرافيم : " الذي يصغي لتنفسه بانتباه، ليس بعيدًا من الله ." استمع واصغ لهذا الذي تجده في آخر زفيرك، الذي هو هنا عند نبع شهيقك . كانت هناك بعض لحظات من الصمت أعمق من المد والجزر، كان هناك شيء يبدو وكأنه يحمل المحيط .
التأمل كالعصفور :
أن تكون جالسًا بوضعية صحيحة كالجبل، متجهًا باتجاه النور كشقائق النعمان، تتنفس بشكل صحيح كالمحيط، ليس هذا بعد التأمل الهادئ الكامل قال له الأب سيرافيم، لا بد أن تتعلم أن تتأمل كالطير .
فأخذه إلى صومعة صغيرة قريبة من منسكته، حيث كان يعيش هناك زوج من اليمام . بدا له هديل هذين الطائرين في البداية جميل ولكنه لم يتأخر عن إزعاج وتوتير الفيلسوف الشاب . فقد كانا يختاران الوقت الذي يريد فيه أن ينام ويبدأان بأحَنِّ ماهناك من الهديل، فسأل الراهب العتيق ما المعنى لكل ذلك، وإذا ما كانت هذه المسرحية ستطول؟ الجبل لا بأس شقائق النعمان، المحيط، يمكن أن تمضي . ولكن يمكن لنا أن نتساءل أين البعد المسيحي لكل هذا؟ أما أن تتأمل بالطيور العاشقة كمدير للتأمل، فهذا كثير .
فشرح له الأب سيرافيم أنه في العهد القديم يُعَبَّر عن التأمل بكلمة أو بالجذر (agah) وفي اليوناني (natélém) وباللاتيني (iratidem) التفكر، فالأصل يعني الهذيذ بصوت خافت وأيضًا هناك كلمة مستعملة لأصوات بعض الحيوانات، كزئير الأسد ( أش ١٣/٤١) وصوت السنونو وهديل الحمام ( أش ٨٣/٤١) وصوت الدب . في جبل آثوس ليس لدينا دببة فلذلك أخذتك إلى اليمامتين، لأن التعليم هو نفسه، لابد أن تتأمل بحنجرتك ليس فقط تستقبل النَفَس بل أيضًا تقوم بهذيذ باسم الله ليلاً نهارًا .
عندما تكون فرحًا، ودون تشغيل الإرادة وبشكل تلقائي، سوف تقوم بتكرار بعض الكلمات بدون أي معنى، هذا الهذيذ يسبب ارتعاشًا في كل الجسد من الفرح والبساطة والهدوء .
أن تتأمل هو أن تهدل كاليمام أن تترك هذه التلاوة تصعد من القلب كما أن تترك عطر الزهور أيضًا يصعد من أعماقك . أن تتأمل هو أن تتنفس وأنت تنشد على كل حال دون أن تتوقف عند المعاني في الوقت الحاضر . أقترح عليك أن تردد ما في قلب كل راهب من رهبان جبل آثوس " كيريا إليسون، كيريا إليسون ..." هذا لم يعجب كثيرًا الشاب الفيلسوف، فقد سمع هذا في كثير من القداديس والزيجات والجنازات . وهذا يعني بلغته " يارب ارحم "
ابتسم الراهب سيرافيم وقال : " نعم، هذه إحدى معاني هذا النداء لكن هناك أكثر منها بكثير، يا رب أرسل روحك، يا رب تحنن عليّ، وعلى الأخص يا رب تبارك اسمك، لا تحاول أن تحصر معنى هذا النداء فإنه سوف يُكشف لك من تلقاء نفسه .
في الوقت الحاضر كن حساسًا ومنتبهًا للارتعاش الذي يسببه في جسدك وقلبك وفقط حاول أن تتأمل بسلام مع إيقاع التنفس وإذا كان هناك أفكار تعذبك عد ببشاشة إلى هذا النداء، تنفس بعمق أكثر، جلس ظهرك، لا تتحرك وسوف تبدأ بالشعور بشيء من السلام الذي يعطيه الله، دون حساب للذين يحبونه . فنداء يا رب ارحم يصبح شيئًا فشيئًا قريب منك . فأصبح الفيلسوف يشعر أن هذا الصوت يرافقه مثل طنين النحلة عندما تصنع العسل، لم يعد يكرره دائمًا بالشفاه فقد أصبح هذا الهذيذ أكثر عمقًا في داخله، وأصبح ارتعاشه أكثر عمقًا . فنداء يا رب ارحم الذي لم يعد يفكر بمعانيه، كان يأخذ بيده إلى صمت مجهول حيث هناك وجد نفسه في موقف توما الرسول عندما اكتشف المسيح القائم من بين الأموات " يا رب ارحم " ، " ربي وإلهي ".
. كان النداء يدخله شيئًا فشيئًا في جو من الاحترام الكثيف لكل وجود وأيضًا للسجود للذي يحتجب عند أصل كل موجود . قال له الأب سيرافيم قد أصبحت قريبًا من التأمل كإنسان لا بد أن أعلمك التأمل كإبراهيم .
التأمل كإبراهيم :
إلى هنا كان تعليم المرشد سيرافيم من النوع الطبيعي والعلاجي فالرهبان القدماء بحسب ما يشهد بذلك فيلون الإسكندري، كانوا بالفعل معالجين، كان دورهم قبل أن يُوصلوا إلى الاستنارة أن يهتموا بمعالجة الطبيعة، ويضعونها في أفضل الشروط حتى تستقبل النعمة لأن النعمة لم تكن تتناقض مع الطبيعة بل تتممها وترممها، هذا ما كان يعمله الشيخ المسن مع الفيلسوف الشاب وهو يعلمه أساليب التأمل هذه التي بإمكان البعض أن يسميها مجرد أساليب طبيعية، الجبل، شقائق، النعمان، المحيط، الطير، عناصر من الطبيعة تذكر الإنسان أنه لابد له من أن يذهب أبعد من ذلك هي تلخص مستويات الوجود المتعددة والممالك المتعددة التي تشكل الكون على مستوى المعادن والنباتات والحيوانات .
كثيرًا ما خسر الإنسان ارتباطه بالكون المخلوق، بالصخور بالحيوانات، .. ولم يحصل ذلك دون أن يسبب له جميع أنواع الأمراض والانزعاجات والقلق والهم، إنه يشعر نفسه زائدًا في العالم غريبًا، فإن التأمل هو بالدرجة الأولى أن تدخل في تأمل ومديح الكونِ نفسِه، أي أن تدخل في عالم الروح بلغة الكون، لأن كل هذه الأشياء عرفت الصلاة قبلنا . هكذا كان يقول الآباء .
الإنسان هو المكان حيث تصبح صلاة الكون واعية عن نفسها . إن الإنسان موجود لكي يسمي تمتمة وهذيذ كل المخلوقات، أما مع تأمل إبراهيم ندخل في وعي جديد وأعلى مستوىً، نسميه الإيمان أي قبول والتزام العقل والقلب مع الأنت، أي الله كآخر في هذه المحاورة بين الأنا والأنت المتعددة والمتباينة في كل الكائنات، هذه هي خبرة تأمل إبراهيم . إن وراء تلؤلؤ النجوم هناك أبعد من النجوم، حضور من الصعب أن نسميه، لا شيء يستطيع أن يسميه بيد أنه كل الأسماء .
إنه شيء أبعد من الكون ولكنك لا تستطيع أن تلتقي به إلا في الكون .
الفرق بين الله والطبيعة هو مثل الفرق بين لون السماء الأزرق وبين اللون الأزرق للنظرة . إبراهيم كان يبحث عن هذه النظرة أبعد من كل لون أزرق .
من بعد الجلوس والتوجه والتجذر والتوجه الصحيح تجاه النور وتنفس المحيط الهادئ والهديل الداخلي، الآن الشاب مدعو إلى إيقاظ قلبه . نعم إنك فجأة تصبح شخصًا . من خصوصيات القلب بالواقع أن يعطي شخصية لكل شيء، هنا أن يعترف بشخصية المطلق ينبوع كل موجود، يبنوع كل نَفَس، ويدعوه إلهي وخالقي ويسير في حضرته .
التأمل بالنسبة لإبراهيم هو أن يراعي من وراء ومن خلال الظواهر المتنوعة اللقاء مع هذا الحضور . فهذا التأمل يدخل في الجزئيات الواقعية للحياة اليومية . وفي حدث بلوطة ممرا نرى إبراهيم جالسًا عند باب الخيمة في الظهيرة في القيظ، ويستقبل هناك ثلاثة غرباء ضيوف، سوف يكشفون له أنهم رسل الله . ملائكة . أن نتأمل مثل إبراهيم كان يقول الأب سيرافيم هو أن نمارس الاستقبال، كأس الماء التي تقدمها لعطشان لا تبعدك عن الصمت بل تقربك من الينبوع، إن تتأمل مثل إبراهيم لاتفهمه على أنه يوقظ فيك السلام والنور فحسب بل أيضًا الحب لكل الناس . قرأ الأب سيرافيم للشاب النص المشهور من سفر التكوين حيث يتحدث عن شفاعة إبراهيم .
كان إبراهيم واقفًا أمام الله القيوم الباقي، اقترب وقال له :" هل بالفعل تريد أن تهلك البار مع الخاطئ؟، لعل هناك خمسون بارًا في المدينة، و هل تهلك ولا تغفر للمدينة بسبب الخمسين بارًا الذين فيها؟ " فإبراهيم شيئًا فشيئًا خفَّض عدد الأبرار لكي لا تهلك مدينة سادوم . " لا يحزن سيدي إذا تكلمت مرة أخيرة " ( تك ٨١/٦١). أن نتأمل مثل إبراهيم هو نتشفع في الناس من أجل حياة الناس دون أن نجهل أبدًا فسادهم ولكن دون أن نتشائم أبدًا من رحمة الله . هذا النوع من التأمل يحرر القلب من كل حكم ومن كل قضاء على الغير، في أي زمان أو مكان مهما كانت وحشية الأعمال النكراء فأي شيء يشاهده خفية يدعو للغفران والبركة .
أن تتأمل كإبراهيم يأخذ بك أبعد من ذلك . كانت الكلمة تخرج بصعوبة من حنجرة الأب سيرافيم وكأنه يريد أن يبعد عن الشاب خبرة قد مر بها هو نفسه، وكانت توقظ في ذاكرته رجفان دقيق .
هذا يستطيع أن يذهب إلى حد التضحية إلى الذبيحة، فذكَّره بما يقول التكوين عن إبراهيم عندما كان مستعدًا للتضحية بابنه اسحق . كل شيء لله كان يردد الأب سيرافيم، كله منه، كله به، كله لأجله . أن تتأمل كإبراهيم يأخذك إلى هذا التخلي الكامل عن نفسك وعن كل عزيز عليك، ابحث عما أنت أكثر تعلقًا به، حيث تربط به ذاتك، جوهرك . بالنسبة لإبراهيم كان وحيده، فإذا استطعت أن تقدم هذا أن تتخلى عنه مع هذا الاتكال الكامل الذي يفوق كل عقل وكل اتزان فسيزاد لك ذلك مئة ضعف . الله يرى، فأن تتأمل مثل إبراهيم هو ألا يكون في قلبنا وضميرنا أي شيء آخر سوى الله . عندما صعد إبراهيم إلى قمة الجبل لم يفكر إلا بابنه وعندما نزل من الجبل لم يفكر إلا بالله، أن نمر بقمة التضحية هو أن نكتشف أن لا شيء تملكه الأنا فالملك كله لله . إنه موت الأنا واكتشاف الذات . أن تتأمل مثل إبراهيم هو أن تتقرب بالإيمان من الذي يفوق العالمين . أن تمارس الاستقبال الضيافة أن تشفع لكل الناس لأجل خلاصهم، أن تنسى نفسك أن تقطع الارتباطات الأكثر شرعًا وشرفًا حتى تكتشف الذات والقريب والكون كله يسكنه الحضور اللامحدود ليهوه الكائن وحده .
التأمل مثل يسوع :
أصبح الأب سيرافيم أكثر فأكثر خجولاً، إذ كان يشعر بتقدم الشاب في تأمله وصلاته . كم مرة قد وجده مبلل الوجه بالدموع يتأمل مثل إبراهيم متشفعًا بالناس، يا الله يا رحمتي، ما هو مصير الخطأة؟
وذات يوم جاء الشاب إلى الأب سيرافيم وسأله : أيها الأب لماذا لا تكلمني أبدًا عن يسوع؟ كيف كانت صلاته، كيف كان تأمله؟ في الليتورجية وفي العظات لا أسمع غير عنه، في صلاة القلب كما يتكلم عنها كتاب حب الجمال الفليوكاليا دائمًا يشار إلى أن اسمه هو الذي ندعوه لماذا أنت تسكت عنه؟ كان الأب سيرافيم متأثرًا وكأن الشاب يسأله عن شيء يخجله، كأنه يسأله أن يكشف عن سره الخاص، كلما كبر الوحي والإلهام الذي يعطى للمرء كلما كبر التواضع للكشف عنه، لم يكن الأب سيرافيم بالتأكيد يشعر أنه متواضع ما فيه الكفاية . لأجل ذلك كان يقول إن ذلك لا يعلمك إياه إلا الروح القدس، لا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يكشفه له ( لو ٠١/٢٢) عليك أن تصبح ابنًا حتى تصلي كالأبناء وأن تدخل في العلاقة مع الذي يسميه هو أباه وأبانا بنفس علاقاته الحميمة وذلك عمل الروح القدس وهو يذكرك بما قاله لك يسوع يصبح الإنجيل حيًا فيك ويعلمك أن تصلي كما يجب .
ألح الشاب وقال أخبرني المزيد، ابتسم الشيخ الكبير وقال اذهب الآن، أفضِّل أن أنبح في وجهك . لكن لو نبحت أمامك لاعتقدتَ أن هذا أيضًا من علامات القداسة، الأفضل أن أقول لك الأشياء ببساطة .
أن تتأمل كيسوع، هذا يجمع كل أشكال التأمل التي علمتك إياها إلى الآن إنما يسوع هذا الشخص الكوني كان يتأمل كالجبل وشقائق النعمان والمحيط واليمام، كان أيضًا يعرف أن يتأمل مثل إبراهيم، قلبه بدون حدود، يحب أعدائه ومعذبيه، " يا أبتي اغفر لهم لأنهم لا يعرفون ما يفعلون " كان يمارس الضيافة لصالح الذين نسميهم مرضى وخطأة ومشلولين وبغايا وعملاء .... كان يذهب في الليل ويصلي في الخفية وهناك كان يناغي كالأطفال أبّا بابا . يبدو مضحكًا أن ندعو بابا الله المتعالي اللامحدود والغير المسمى الفائق الكل، شيء يثير السخرية ولكن صلاة يسوع كانت كلها في هذه الكلمة الصغيرة، السموات والأرض كانتا تتقاربان جدًا من بعضهما البعض، الله والإنسان يصبحان واحدًا . يجب أن يختبر الشخص هذا الشيء أن يسميه أحدًا بابا في الليل حتى يفهم ذلك . ولكن في هذه الأيام ربما لم تعد العلاقات الحميمة بين الأب والأم والأولاد تعني شيئًا ربما لم تعد تنفع هذه الصورة أوأنها أصبحت سيئة؟ لذلك كنت أفضِّل ألا أقول لك شيئًا ولا أستخدم أي صورة وأنتظر أن يضع الروح القدس فيك المشاعر والمعرفة التي كانت في المسيح يسوع حتى لا تصعد كلمة أبّا من شفتيك بل من أعماق قلبك . في ذلك الحين ستبدأ بفهم ماهي الصلاة وما هو التأمل الهادئ .
الآن اذهب :
بقي الشاب بضعة أشهر أخرى على جبل آثوس أخذته صلاة يسوع إلى أغمارٍ وتارة إلى حافة شيء شبيه بالجنون . لست أنا الحي بل المسيح الذي يحيا فيّ كان يقول مع بولس الرسول . هَوَس من التواضع والشفاعة ومن الرغبة أن يكون كل الناس مُخَلَّصِين، وأن يحصلوا جميعًا على معرفة الحقيقة الكاملة، كان يصبح حبًا، كان يصبح نارًا، كانت العليقة المشتعلة لم تعد بالنسبة له صورة بل حقيقة . كانت مشتعلة ولكنها لم تحترق . ظواهر أخرى من النور كانت تزور جسده، يقول البعض أنهم رأوه يمشي على الماء أو يبقى جالسًا على ارتفاع ٠٣ سم عن الأرض .
هذه المرة أخذ الأب سيرافيم ينبح، " هذا يكفي الآن اذهب " وطلب منه أن يترك الآثوس، أن يعود إلى بلده وهناك يرى ما الذي يبقى من تأملاته الجميلة الهادئة .
رحل الشاب وعاد إلى فرنسا . وجدوه قد ضعف قليلاً ولم يجدوا شيئًا روحيًا في طول ذقنه الوسخة المتروكة . ولكن حياة المدينة لم تنسه تعليم الستارتس " المرشد " عندما كان يشعر باضطراب بسبب قلة الوقت كان يذهب ويجلس كالجبل على شرفة المقهى . عندما كان يشعر بالتكبر وزوال الكون كان يتذكر شقائق النعمان فإن كل زهرة فانية، وكان قلبه يعود يتجه إلى النورالذي لا يزول . عندما كان يدخل في نفسه الحزن والبغض والاشمئزاز كان يتنفس ملئ صدره كالمحيط وكان يعود إلى التنفس الحقيقي كنفس الله كان يدعو اسمه ويردد كيرياليسون، يا رب ارحم .
عندما كان يرى آلام الناس وشرهم وعجزه عن تغيير أي شيء كان يتذكر تأمل إبراهيم، وعندما كان يُشْتَم، ويُقال عليه كل شر كان يسره أن يتأمل مع المسيح .
في الخارج كان إنسانًا مثل أي إنسان لم يحاول أن يكون له شكل القديس حتى أنه قد نسي أنه يمارس منهجية الصلاة الهادئة فقط كان يحاول أن يحب الله لحظة بعد لحظة وأن يسير في حضرته .
LA MÉTHODE D’ORAISON HÉSYCHASTE
Selon l’enseignement du Pére Séraphin
du Mont Athos
Subjects:
Themes:
- Log in to post comments
- 14419 reads