إِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحَة (هوشع ٦/٦؛ مت ٩/ ١٣)
استهل أسقف روما فرنسيس حديثه في مناسبة الصوم الأربعيني ٢٠١٦ بهذه العبارة قائلاً: »في براءة سنة اليوبيل، توجّهتُ بدعوة لنعيش زمن الصوم في هذه السنة اليوبيلية بزخم أكبر كفرصة ملائمة للاحتفال برحمة الله واختبارها» (وجه الرحمة، رقم 17). وأضاف أن «رحمة الرب هي بالحقيقة بشرى للعالم: وكل مسيحي مدعوّ لأن يختبر هو أولاً هذه البشرى«.
فخليفة بطرس يبدأ بشخصه حاملاً بشرى الرحمة لنا نحن المؤمنين، وأيضًا لغير المؤمنين؛ هذه الرحمة الذي اختبرها بعلاقته مع الله والتي تبرز ثمارها واضحة في تواضعه غير المصطنع ومحبته وحرصه على خراف رعيته. لاشك أن تجليات رحمة الرحمن لا تحصى لكننا كمؤمنين وأبناء وبنات لله نجد في ميلاد يسوع المسيح المخلص ينبوع رحمة ورجاء فيما بيننا، فالله أصبح معنا.
هذا الميلاد هو علامة الرحمة الإلهية التي جاءت بشرى من الله لجميعنا نحن أبناء البشر والتي تمت بإرسال الله ابنه الوحيد فمات وقام ليخلصنا ويعيدنا للحضن الأبوي. أما جوابنا الذي نعطيه لمن يسألنا كيف نلمس رحمة الله، خاصة في هذه الأيام الصعبة، فهو من خلال خبرتنا للرحمة التي وضعها الله في قلوب الناس من حولنا، وحتى البعيدين عنا، الذين يشعرون بمعاناتنا و يتضامنون معنا من خلال صلاتهم على نيتنا، واستقبالهم للاجئين من بلادنا وتقديم المساعدات بسخاء لهم ولنا ولعائلاتنا.
فالمرجعية إذا هي خبرتنا الشخصية مع الله، فقد لمسنا لرحمته ومحبته لكل منا بشخصه. إنها خبرة فريدة وخاصة تنبع من كون كل منا فريد في عيني الله صانعنا على صورته كمثاله؛ فقد وضع في كل منا بصمته التي تجعلنا نختار لحياتنا أساسًا روحيًا متينًا يخص كل تفاصيلها وهو، بالنسبة للنصارى، شخص يسوع بسلوكه وحبه المطلق والمتفاني لجميع الناس. إن الحب هو المحرك الرئيسي لحياتنا خاصة في جانبها الروحي.
بقدر ما نهتم بهذا الأساس و نرعاه بقدر ما ينعكس هذا علينا وعلى المحيطين بنا ويظهر على وجوهنا مما يمكننا أن ننقل لغيرنا البشرى القائلة بأن الله رحيم. يلمس الناس ذلك من خلال استقبالنا المحب لهم في حياتنا والانتباه لحاجاتهم ومحاولة استيعابهم. وهنا واجبنا ودورنا يكمن في تعميق علاقتنا بالله كجواب مقابل حبه المجاني لنا بالتزامنا وانفتاحنا وتسليمنا لإرادته في حياتنا.
و يتابع راعي الكنيسة الجامعة قائلا لهذا السبب »سأرسلُ، في زمن الصوم الأربعيني، رُسُلَ الرحمة ليكونوا للجميع علامةً حيّة عن مدى قُرب الله ومغفرته«. يوجه لنا البابا هنا نداء المُحِبّ لنكون أولائك الرسل الذين أرسلهم الله ليُشعروا الناس بمحبته لهم و قربه منهم من خلال أعمال الرحمة التي نعملها مع بعضنا البعض، من خلال تحمل أخطاء وضعف بعضنا البعض. يجب أن نطلب من الله نعمة التحول، هذه النعمة التي تجدد وجودنا وتصقل أشخاصنا لنصبح أكثر إنسانية وحساسية و تضامنًا مع الأكثر فقرًا وحاجة. وهذا يتم بنعمة الروح القدس الذي يطعّم حياتنا ويخلق ويجدد فينا تعليمه فيجعلنا أشخاصًا جددًا لديهم ما للمسيح من رؤية وحس وشعور، الأمر الذي يتطلب منا فحص ضمير مستمر حتى نتأكد إلى أي قدر نعيش ونتصرف كما يريدنا الله، حاملين قلبًا جديدًا مستوعبًا للآخرين ومركزًا عليهم بدلاً من التركيز على ذواتنا. على أن هذا بالطبع يتطلب منا التجاوب والالتزام و ترك المجال للرب أن يحولنا وينقلنا من حالة إلى حالة أخرى ومن نمو روحي لآخر إلى أن نبلغ ملء قامة المسيح، مهيئين له مكانًا مناسبًا في قلوبنا ليولد و يترعرع فيها ويغير نكهة الحياة من حولنا.
نصلي وندعوكم أن تصلوا معنا لأجل المجمع الأورثوذكسي العالمي الذي بدأ في الصيف الماضي وهو أول مجمع أورثوذكسي منذ القرن الرابع. نصلي لكي ينير الروح القدس آباء المجمع والمشاركين فيه لأجل خير الكنيسة والعالم. كما أننا نحمد الله على المبادرة النبوية التي قام بها أسقف روما فرنسيس تجاه الكنائس اللوثرية بزيارته إلى السويد في الواحد والثلاثين من تشرين الأول الماضي، وذلك كخطوة مهمة وجبارة على طريق توحيد القلوب وتوحيد جسد المسيح وعروسه، أي الكنيسة. ندعو كل ضمير وكل قلب وكل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة للصلاة معنا لأجل الوحدة والتناغم في كل جماعة وبين كل جماعات العائلة البشرية.
لقد أنعم الله تبارك وتعالى علينا هذه السنة بنعمة خاصة ومميزة، ذات بعد كنسي أصيل تركت في قلوبنا أثرًا تحول إرثًا روحيًا عميقًا. ففي تاريخ الثالث من أيار الماضي قام عدد من رهبان الجماعة وكل راهباتها بزيارة أسقف روما في الفاتيكان فقد استقبلنا البابا فرنسيس في زيارة خاصة. كان الوقت المتوقع بين ١٥ إلى ٢٠ دقيقة كما قيل لنا، لكن المتشح بالبياض وصل قبل الموعد بربع ساعة واستبقانا ما يقارب الساعة، أصغى فيها لكل واحد وواحدة منا بكل حب وانتباه. بعدها أعرب عن أسفه وتضامنه مع المضنوكين من جراء الحرب التي يزيد غوغائها تجار الأسلحة وقال إن أسلحتنا نحن هي الصلاة والتواضع والمسامحة والغفران والمصالحة وتقدمة الذات. وقد أخجلنا جميعًا عندما قال: «شهادتكم تشعرني بالصِّغر فأنا هنا بمأمن وأنتم تشهدون شهادتكم في الخطر». وقد شجعنا في رسالتنا وأثنى على التزامنا العمل في سوريا رغم صعوبة الوضع وقد أوصانا أن نصلي بلا حساب قائلاً :«أشجعكم أن تضيعوا وقتكم في الصلاة». لقد لمسنا لمس اليد في هذه الزيارة مدى تواضعه البسيط غير المصطنع إذ لم يجلعنا نشعر بأي فرق أو بأي مسافة بيننا وبينه بل عبر عن محبته العميقة للسوريين ولسورية التي يدعوها دائمًا «سوريا الحبيبة».
مما نود أن نذكره أيضًا هو شكرنا العميق لأخوية رهبان وراهبات القدس ولمركز دوناتي للدراسات في مدينة بيستويا في إيطاليا، على ترشيحهم لجماعتنا لجائزة جورجيو لابيرا للسلام بسبب التزامنا وإيماننا بالحوار بين الأديان المختلفة وخاصة بين الإسلام والمسيحية لخير الناس كلهم، وبسبب التزامنا بالعمل الإنساني ومساعدة المحتاج والفقير في منطقتنا خلال ظروف الحرب. لانذكر هذا افتخارًا أو تباهيًا، فماعاذ الله أن نفتخر إلا بالرب (را. ٢كور ١٠/ ١٧)، فهذه الجائزة لا تعني أننا أبطال ولكنها تدل على أن ما نقوم به يعني الكثير لأُناسٍ آخرين وبالتالي يستحق عناء التنفيذ في أماكن أخرى. لقد قمنا بواجبنا النابع من إنسانيتنا بالدرجة الأولى ومن معموديتنا، فالمعمد لا يحق له أن يرتاح فيما يتألم أخاه الإنسان، أي إنسان. وكما يقول الإنجيل الشريف «متى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتـُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنـَّا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ، إِنـَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا» (لوقا ١٧/ ١٠). ليست الجائزة لنا وحدنا وحسب بل هي لسوريا الجريحة، ولكل السوريين الذين التزموا بمساعدة المحتاج والنازح، لكل الذين كانوا في هذه الأزمة رسل سلام وصناع خير. نحن نشترك فيها مع الآباء اليسوعيين، مع كاريتاس، مع كل كهنة الرعايا والمكرسين والمكرسات من كل الطوائف. لابل مع كل الجمعيات الخيرية المسيحية والإسلامية التي تتعاون في العمل الإغاثي. لا بد هنا من كلمة شكر إلى كل أصدقائنا في كل أنحاء العالم الذين يساندوننا بصلاتهم وبتبرعاتهم وبالتزامهم لأجل الخير العام والسلام. نخص بالذكر جمعية أصدقاء دير مار موسى في إيطاليا وفرنسا وسويسرا وكل المؤسسات الكنسية والمدنية التي تساعدنا وتدعمنا. لكم منا كل الشكر والحب.
إن الحرب قد أرهقتنا تمامًا، يبدو هذا جليًا في حياتنا اليومية، فما عاد بوسعنا أن نتحمل بعضنا البعض بسهولة. حتى أعمق العلاقات و أمتنها باتت مهددة لأن الصبر قد نفذ والإرهاق والقلق هو سيد الموقف. لذلك ليس أمامنا إلا الإكثار من الصلاة لننال من الله نعمة الصبر والانفتاح فنحافظ على قلوبنا خالية من العنف و محصنة ضد الكره وردود الأفعال السطحية غير البناءة، ومتوجهة دائمًا بالدعاء إلى الله تعالى كي يُزيل عن بلدنا هذه الغمامة السوداء ويعطينا سنين ملؤها الخير والأمل و البركة. نسأله تعالى أن يمنّ علينا بميلادٍ متجددٍ ومُجددٍ لعلاقتنا معه، مع ذواتنا ومع الآخرين مقربين أتعابنا وجهودنا من أجل أن يعم السلام في بلادنا وفي العالم.
منذ بداية الصيف الماضي بدأ الناس يزورننا بين الحين والآخر كعائلات ومجموعات صغيرة متشجعين بسبب الهدوء الأمني السائد منذ عدة شهور. تشكل هذه الزيارات سبب فرح كبير لنا. وقد كان لزيارة سيادة المطران مار ثيوفيلس فيليب بركات، الصديق العزيز، بمناسبة عيد شفيع الدير مار موسى الحبشي، وقع مميز لدينا فكانت مصدر رجاء فقد جاء بصحبة بعض كهنة وشمامسة الأبرشية وكثير من أهالينا في النبك. هذه زيارته الأولى بعد سيامته الأسقفية راعيًا لأبرشية حمص وحماة والنبك وتوابعها للسريان الكاثوليك في أيار الماضي، احتفلنا أثناءها بالذبيحة الإلهية وتشاركنا بعد ذلك بالمائدة الأخوية. إن عودة الزوار بعد انقطاع طويل دليل رجاء في حياة زوارنا، . لذلك فإننا نحاول دائمًا أن نكون مستعدين، مهيئين المكان وقبله القلوب لاستقبال القادمين القاصدين ملجًأ لينالوا قسطًا من الراحة والهدوء والسلام.
يسرنا أيضًا أن نخبركم أن رعية النبك للسريان قد استقبلت كاهنها الجديد يوم عيد مار موسى الحبشي، أبونا سعيد مسوح، كاهن شاب ومتحمس، ونحن سعداء بالتعاون معه فيما يخص شؤون الرعية والمساعدات والنشاطات سواء لأولاد التعليم أم للكبار.
طوال السنة الماضية حاولنا التركيز على مساعدة الشبيبة والأطفال فهم مستقبلنا. لذلك سعينا لتأمين مشاريع توفر فرص عمل لبعض الشباب ليعيشوا بكرامة و يتخلوا عن فكرة الهجرة وللبعض الآخر فرص دراسة سواء في داخل البلد أو في خارجه و ذلك بهدف رفع المستوى الثقافي وتحضير أنفسنا للمستقبل بالنظر إلى ماوراء المرحلة القادمة. على صعيد آخر فقد أمنَّا المسكن من خلال مشروع بيوت العائلات الفتية والذي بدأناه عام ٢٠٠٨، مما سهّل لهم إمكانية الزواج. الشكر لله في هذا الصيف أصبحت لدينا ثلاثة عائلات جديدة. لقد كمل البناء الرابع في مشروع بيوت العائلات الفتية مع القبو الواسع وخزان المياه الكبير. إننا نرغب في الاستمرار في هذا المشروع ونفكر في شراء بيت عربي قديم ومهجور لنشيد مكانه بناء يخدم الخدمة ذاتها، أي تسهيل زواج الشباب والشابات الفقراء وذوي الدخل المحدود الذين لا يمكنهم شراء أو بناء بيت خاص لهم وبالتالي عليهم اللجوء إلى الإيجار سواء في النبك أم في الهجرة إلى المدينة وربما إلى الخارج. كما أن هناك نصيب من هذا المشروع للعائلات الفقيرة المتزوجة منذ زمن وعندها أولاد. فالإيجار رمزي في أغلب الأحيان خاصة للعائلات المنكوبة أو الكثيرة العدد والمحدودة الدخل.
لقد وفقنا الله في مشروع تجديد الحضانة التابعة للمطرانية بهدف تأمين جو سليم وصحي للأطفال ورفع مستوى التعليم وتوفير فرص عمل لمجموعة من الشابات الجامعيات. أما من حيث البرامج الثقافية الترفيهية الخاصة بالأطفال فقد قمنا بتنظيم مخيم لمدة خمسة أيام في بداية الصيف يتضمن دروسًا في الموسيقا والرسم والرياضة، حاولنا من خلاله اكتشاف مواهب الأطفال. ولتطوير هذه المواهب قمنا بشراء آلات موسيقية لعدد كبير من الأطفال لمتابعة دروس الموسيقا مع أساتذة مختصين على مدار السنة. نأمل أن تساعد هذه النشاطات الأولاد للخروج من جو الألم والعنف فيرتقوا بمشاعرهم وتنمو فيهم أحاسيس حضارية . كانت النتيجة الأولى حفل موسيقي ليلة عيد مار موسى، أحياه الكورال الذي تدرب كل الصيف على يد مدرسة من أبناء الرعية متطوعة ومتمكنة جدًا.
طبعًا يترافق كل هذا مع الاستمرار في تأمين الحاجات الضرورية لأهالينا في النبك من وقود وأقساط لطلاب المدارس والجامعات وأدوية وأجور عمليات جراحية. الأمر ذاته يُقدّم لأهالينا من رعايا القريتين القاطنين حاليًا في زيدل وفيروزة مع حاجات أخرى مثل الحليب وأغذية للأطفال وإيجارات البيوت وذلك لدعمهم ومساندتهم في هذا الوقت الصعب آخذين بعين الاعتبار الحاجات الخاصة لبعض العائلات الأشد فقرًا. ليس فقط لأهالينا في هاتين المدينتين بل وأيضًا لآخرين من مسيحيين ومسلمين دون فرق وحسب حاجتهم واستطاعتنا. لكن الجانب الأصعب في المجال الصحي هي العمليات الجراحية الكثيرة والتحاليل الاختصاصية وعلاج أمراض السرطان التي تزداد طلباتها يومًا فيومًا والتي لا نقدر وللأسف على تغطيتها جميعها، لكننا نحاول أن لا نرد أي فقير خائبًا، ونتعاون في هذا مع الأبرشية، مع الآباء اليسوعيين ومع كاريتاس. الجميل في هذا كله هو الكرم والسخاء الذي نلقاه من قبل المتبرعين الذي يعجز لساننا عن شكرهم. إننا نحملكم دائمًا في صلاتنا، أنتم وعائلاتكم وأمواتكم.
لا بد لنا أيضًا من أن نذكر الدعم المعنوي الكبير الذي تقدمه لنا مطرانية السريان الكاثوليك بتوجيه من مطراننا الحبيب فيليب بركات واستعداده الشخصي لكل خدمة ومساعدة ممكنة لتسهيل المشاريع والأعمال الخيرية. في هذا المجال مازال الآباء اليسوعيون شركاءَنا وإخوتنا الكبار الذين لا يوفرون أي فرصة لمساعدتنا ودعمنا. نحن نطلب القوة والعون من الله لنا جميعًا لنكون علامة محبته للبشر، هو النبع والمصدر.
في هذه الأيام حيث يقترب فصل الشتاء رأينا أنه من المناسب قضاء أوقات فردية أكثر نكرس فيها وقت بعد الظهر للقراءات الشخصية و الروحية مع تكريس بعد ظهر يومين في الاسبوع تقرأ فيهما الجماعة إحدى المقالات التي يختارها أحد أفرادها أو تلك التي تخص فترة تأسيس الجماعة أو المتعلقة بروحانيتنا في الدير. نحاول معًا كجماعة أيجاد صيغة مناسبة لاستقبال ضيوفنا الأعزاء بعد هذه الفترة من الغياب الطويل وذلك في جو من الصمت والصلاة. نقدر أن الجميع تعبون مرهقون، ولكننا في استقبالنا نود أن نكون في الوقت عينه محافظين على جوهر دعوتنا ومنتبهين لاحتياجات ضيوفنا الخاصة وواعين لحالتهم النفسية الصعبة محاولين ان نساعد في التركيز على الأمور الجوهرية لحياتنا ولخيرهم. كما سبق وقلنا فإن أبواب قلوبنا وديرنا مفتوحة كما كانت دائمًا إن شاء الله وسوف نحملكم في صلاتنا كما نطلب صلاتكم لأجلنا حتى نعيش دائمًا دعوتنا بأمانة وسخاء.
مازلنا نحافظ على المشروع الزراعي والمشتل في الوادي أمام الدير، فمنه نأكل الخضار وبعض الفواكه طوال الصيف ونحضر الزيتون ونتذوق بالزيت الآتي من عمل أيدينا. همنا هو المحافظة على الغطاء النباتي الموجود وعلى الأشجار التي تعبنا عليها منذ ثلاثة عقود. قد أنهينا الكاراج الجديد الذي أصبح يتسع لسيارات التنقل والعمل وللتراكتور وللمعدات الزراعية أيضًا. نتابع بصبر ترميم وصيانة ما هو بحاجة إلى صيانة في الدير ومحيطه. نرغب هذه السنة بإنشاء عبارة للمياه أمام السيل بين الكاراج ومشتل الدير، كما أننا نود إصلاح التلفريك اليدوي وتحسين نقطة استعماله على رأس الجبل حتى يصبح الوصول إليه بواسطة الجرار أو شاحنة العمل سهلا وأمينًا. نود هنا أن نشكر الله على فريق العمل من شركائنا من مسيحيين ومسلمين الذين رغبوا بالالتزام معنا بالرغم من كل الظروف مظهرين بشكل مستمر إخلاصهم ومحبتهم للدير وللجماعة.
تحول الدير إلى خراب خلال السنة الأخيرة فبعد أن قامت داعش بهدم الدير الأثري وتفجير قبر مار إليان، تولت نيران الحرب زيادة الخراب … الدير مهجور والكنيسة محروقة والغرف أغلبها مهدم ومحروق … كنيسة الرعية أيضًا محروقة مع بيت الكاهن وقد لحق الدمار ما لحق في كثير من أجزاءه. بدأ الناس بالعودة إلى القريتين بعد أن خلت من عناصر داعش، لكن الحضور مازال خجولاً ففي شهر أيلول الماضي كان عدد الذين عادوا إلى المدينة يقدر بـِ ٢٠٠ عائلة، وهناك من قال أن العدد سيصبح ٧٠٠ عائلة مع افتتاح المدارس. من هذا العدد فقط عائلة مسيحية واحدة عادت، فعلى ما يبدو أن المسيحيين مازالوا متخوفين من العودة إذ لا يعلمون ماذا يخفي لهم المستقبل. أغلبية نصارى القريتين الساحقة تقيم في فيروزة وزيدل بجانب حمص. إن همنا الحالي هو الاهتمام بالمشروع الزراعي في أراضي الدير، أي سقاية أشجار الزيتون التي مازال أغلبها حيًا، وجفنات العنب التي مات منها الكثير، بينما يبست الأشجار المثمرة كلها. لكننا للأسف لم نجد أحدًا مستعدٌ لمتابعة العمل في هذا المشروع بسبب خوف الناس.
عاد الهدوء النسبي إلى بناء الدير بعد توزع عائلات المهجرين على بيوت مسبقة الصنع قامت الجماعة الرهبانية بواسطها بخلق حارتين من الكارافانات مجاورتين للكنيسة مما يضمن استقلالية وخصوصية أكبر لكل عائلة. يرتاد الأطفال المدرسة حيث الدروس من قبل متطوعين من المهجرين ذاتهم أو من المجتمع المحلي هذا بالإضافة إلى دروس التعليم المسيحي. إن دروس اللغة الكردية إجبارية لكل الأولاد واختيارية للكبار، يشارك فيها إلى جانبهم بعض اللاجئين السوريين والعراقيين الناطقين بالعربية. كما أنك هناك معلمة تأتي من الخارج لمتابعة تنشئة مدرسي اللغة الأجنبية. قمنا أيضًا بإنشاء ورشة تعليم خياطة للنساء وأيضًا مدرسة مسرحية للأطفال وواحدة للكبار وقد قدمو عدة عروض مسرحية. يضاف إلى هذا كله بعض النشاطات الثقافية التي تخلق مجال للقاء بين الشبيبة وبين الكبار. بدأنا للتو عملية بناء جناح ملازم للكنيسة خاص بالراهبات والضيوف من النساء. إننا نبذل ما بوسعنا للممارسة دعوتنا الأساسية في الحوار، فهي مركز حياتنا ونشاطاتنا، ونعمل على تحسين العلاقة مع الوسط الإسلامي المحيط إلى جانب العمل الإنساني ومساعدة اللاجئين الأمر الذي احتل المركز الأول في سلم اهتماماتنا خلال السنتين الماضيتين.
تستمر الحياة البسيطة العادية في ديرنا الناشئ في كوري على إيقاع الدراسة الجامعية وبحسب عدد الرهبان والراهبات المتواجدين فيه. فقد نظمنا في آخر الصيف أسبوع صلاة وحياة مشتركة أسميناه ”أبواب مفتوحة“ بنجاح يزيد سنة عن سنة نشكر الله عليه ، بالإضافة إلى يوم صلاة اشترك فيه مسيحيون ومسلمون في إحياء ذكرى ”أهل الكهف“ أو ”الفتية السبعة الراقدين في أفسس“ كان فرصة للمشاركة والتأمل في سر القيامة والصلاة لأجل استيقاظ كثير من الراقدين في ظلام الكهوف. كما تستمر سلسلة التعمق بمعرفة الكتاب المقدس مرة كل شهر بالتعاون مع صديقتنا المكرسة السورية مريانا التي تلتزم بأمانة في تأدية هذه الخدمة للجماعة ولعدد من الأصدقاء. إننا نعمل مع بعض الأصدقاء من كوري وروما على مشروع ترميم كنيسة الدير من الداخل، فبعد مشروع ترميم وتدعيم الأساسات والجدران الخارجية وتغيير السقف كاملًا عام ٢٠٠٢، بقيت الكنيسة غير صالحة للاستعمال بسبب عدم تنفيذ الترميم الداخلي. فالأرضية غير موجودة، لا يوجد إنارة ولا تدفئة، كما أن الجدران والمساحات الداخلية بحاجة ماسة إلى ترميم بالإضافة إلى ضرورة المحافظة على الإرث الثقافي والفني مع وجود رسومات جدارية تعود للقرن السادس عشر والسابع عشر … إلخ. لقد تم بسعي عدد من الأصدقاء في كوري ترميم إحدى اللوحات المرسومة على قماش وهي الآن محفوظة في كنيسة الجماعة الصغيرة التي هي عبارة عن غرفة من غرف البيت. نشكر الله على صداقة مطران لاتينا المونسينيور مارايانو كروشاتا وعلى دعمه واهتمامه الأبوي بالجماعة. لقد شجع المطران مشروع الترميم والتزم معنا بالمساهمة فيه وذلك لسبب كنسي أوضحه لنا بصراحة، وهو وجود الجماعة التي تعيش هناك وإمكانية إحياء مركز البلدة الذي يفرغ رويدًا رويدًا، وليس من باب المحافظة على الفن أو الآثار رغم أهميتها، فالأبرشية مليئة بالكنائس القديمة التي تحتاج إلى ترميم.
الراهبة هدى: تقوم أختنا هدى بأمانة بواجبها كرئيسة للجماعة الرهبانية وتمارس دورها بطريقة خفيفة تترك مجالاً للنمو وفسحات من الحرية لكل منّا. تهتم بكل شيء وبكل الرهبان والراهبات وحاجاتهم على قدر استطاعتها وتحرص على تقدمهم الروحي وراحتهم ولو على حساب راحتها. كما أنها تتابع بصبر، يعاونها بعض أفراد الجماعة، مشاريع المساعدات الإنسانية التي تلتزم بها الجماعة في سوريا منذ بداية الحرب. تصغي لكل من يقصدها لأي خدمة ولو للمشاركة في هموم الحياة وخاصة الأخوات والسيدات في مدينة النبك، وهي متيقظة دائمًا وحريصة على خدمة الفقراء، الشريحة المفضلة عند المسيح معلمنا في الإنجيل.
الراهب يعقوب (جاك): بعد أن استطاع النجاة والحمد لله بشفاعة العذراء من أيادي داعش، يقوم بالشهادة لعمل الله في حياته عن طريق لقاءات عديدة بأصدقاء وجماعات كنسية وعلمانية توجه له الدعوات في الخارج. تشكل لقاءاته وزياراته الودية مصدر مساندة ودعم روحي لكثير من أصدقائنا. لقد قضى يعقوب بعض الوقت بجانب ينس في ديرنا في السليمانية حيث سانده في خدمته الكهنوتية باهتمامه ”برعية الدير“ المؤلفة من المهجرين المسيحيين من كلدان وسريان كاثوليك الذين قدموا من الموصل وسهل نينوى. إن ما عاشه هذا الأخ من محنة وفرج لهو قوة ونعمة لكل أفراد الجماعة، خرج جاك من الأسر مع قلب توسع للغفران، منفتح أكثر ومتضامن مع العالم الإسلامي المجروح بسبب التطرف حيث يشكل هو نفسه ضحيته الأولى. إن الصداقة مع أهالي القريتين المسلمين هي التي سهلت خروج جاك سالمًا ومن بعده كل المسيحيين المخطوفين. إننا إذ نحمد الله أيضًا وأيضًا على سلامة أخينا لا نقطع الأمل والصلاة لأجل معلمنا الروحي ومؤسسنا الذي لا نعلم عنه شيئًا إلى الآن، كما لا يغيب عن صلاتنا المطرانين والكاهنين المخطوفين، مع كل من اختفى وأهله لا يعرفون عنه شيئًا.
الراهب ينس: يتولى مسؤولية إدارة الدير في السليمانية بصبر والتزام ملفتين للنظر. لقد اظهر ينس نضوجًا وتطورًا ملحوظين على الصعيدين الرهباني والعمل الإغاثي الإنساني. وكما قلنا فقد عمل بجهد على تنظيم سكن المهجرين في حارات من كارافانات، وأصرّ بحكمة وصواب على ضرورة تطوير مدرسة الأطفال وتعلمهم اللغة الكردية حتى يستطيعوا الاندماج بالمجمتع في المستقبل، هذا إن لم يهاجروا مع أهاليهم إلى ما وراء البحار. يقوم ينس بخدمة الكنيسة المحلية بعدة طرق، منها الاحتفال بالقداس لبعض الراهبات وللكثير من الناطقين بالانكليزية العاملين في المدينة من هنود وفيليبيين وأروربيين. كما أنه يعمل دون هوادة على توطيد أواصر الصداقة مع المحيط الإسلامي والمحلي هناك.
الراهب بطرس: يهتم بحركته المميزة بالضيوف وكذلك بصناعة الجبنة وبالنباتات التي لها مكانة خاصة في حياته الديرية. يثابر بطرس على القراءات الروحية الشخصية وعلى دوره الفعال في المطبخ وفي تربية الدجاج مما يغني فطور يوم الأحد الاحتفالي بالبيض المقلي. لقد سافر كل إخوة بطرس إلى دول مختلفة من العالم ولم يبق سوى أمه وأخته حاليًا في لبنان تنتظران دورهما للسفر إلى حيث تنفتح بوجههما أبواب السفارات.
الراهب جهاد: يتابع مشواره في الدراسة والبحث العلمي وهو يكتب حاليًا أطروحته لنيل دكتوراه في علوم الكتاب المقدس عن الإرث العربي المسيحي. بالإضافة إلى ذلك يساعد في تنظيم مشاريع الدير عندما يكون في سوريا، ويقوم ببعض اللقاءات في الرعايا عندما يكون في إيطاليا.
الراهبة ديما: تساعد في تحضير التقارير الخاصة بالعمل الإداري والمشاريع الجارية في الدير، كما أن لها لمساتها المميزة في تحضير الأطباق الشهية في المطبخ. شاركت ديما أيضًا أثناء فترة وجودها في إيطاليا ببعض اللقاءات والندوات، كما أنها شاركت لمدة شهر تقريبًا في ورشة عمل خاصة بالدراسات عن المسيحيين الشرقيين و العلاقة بين الأديان في جامعة مونستر الألمانية مع متابعتها للقراءات الروحية الشخصية وكتابة يوميات رهبانية تتعلق بحياتها في الدير.
الراهب يوسي: يمضي معظم وقته في صناعة الشمع سواء للاستعمال في كنيسة الدير أم لسد حاجات بعض الأديرة في المنطقة، الشيء الذي أدى لنشوء صداقات متعددة وجديدة مع هذه الجماعات وشكل مصدر إبداع له بعلاقته مع المادة والتفنن بصناعة الشمع. يترافق هذا طبعًا مع المشاركة في الأعمال الديرية اليومية إضافة إلى اهتمامه بالقراءات الروحية.
الراهبة كارول: ذات اللمسات الخاصة في ديرنا في كوري حيث تقيم في هذه الفترة لتدريس اللغة العربية في المعهد الحبري للدراسات العربية الإسلامية في روما وقد بدأت بعون الله مشروع دكتوراه في الإسلاميات في نفس المعهد. تشارك كارول في اللقاءات والندوات الخاصة بالجماعة بين الحين والآخر وقد قدمت عدة مداخلات ومحاضرات في ندوات نظمتها جامعات حبرية مثل الغريغوريانا والأوربانيانا عن الحوار المسيحي الإسلامي في سنة الرحمة التي أعلنها أسقف روما البابا فرنسيس. كما أنها تقوم بزيارة العجزة في الرعية أيام الآحاد لإعطائهم المناولة ، وبالإرشاد الروحي للمسؤولين من الكشاف.
الراهبة فريديريكة: توجت ابتداءها معنا بتقديم نفسها كاملة للرب بالنذور الرهبانية المؤبدة في الخامس من أيار ٢٠١٦ في دير سان سالفاتوري كوري - إيطاليا. حيث احتفل بالذبيحة الإلهية المطران مريانو كروشاتا بمشاركة والدة الراهبة فريدريكة والعديد من أصدقائها وأصدقاء الجماعة من أنحاء متنوعة من العالم. كانت الفترة السابقة للنذورات فرصة للمشاركة بين أفراد الجماعة، فإلى جانب زيارة البابا قبل يومين من النذورات لطلب بركته أيضًا لأجل هذه الأخت، أمضى أفراد الجماعة المتواجدون هناك في ذلك الوقت وهم، هدى، يعقوب، ينس، جهاد، ديما، كارول وفريدريكة، أوقاتًا مهمة من المشاركة بعد سنوات طويلة لم تتح لنا الفرصة فيها للقاء جميعنا. وإذ ذاك فإننا نفكر بتنظيم لقاء رهباني دوري كل سنتين أو ثلاث لكل أفراد الجماعة لمدة أسبوعين لنناقش فيها مختلف نواحي حياتنا ودعوتنا ولنتقاسم فرح وتعب الرسالة. تلتزم فريدريكة حالياً مع ينس في السليمانية حيث تنظم نشاطات مميزة في ورشة العمل المسرحي مع الشباب والأولاد في الحارة من المسيحيين والمسلمين.
المبتدئ نبيل هاويل: قضى معنا ثلاث سنوات يبحث فيها عن إرادة الله في حياته وقد التزم بعمق بحياة الصلاة والعمل اليدوي، وبعد تمييز روحي خاص قرر السفر مع أهله إلى أستراليا. نحن نحمله في صلاتنا ونتمنى له كل الخير والتوفيق. ومعه هنا نذكر ونحيي كل الذين واللواتي مروا في حياة الجماعة، خاصة الذين أرادوا وجربوا الحياة الرهبانية وتابعوا من ثمة في جماعات أخرى أو اختاروا نمط حياة أخرى غير الحياة الرهبانية، سواء في الزواج والعائلة أم في الالتزام الإنساني بمختلف مجالاته. إننا نصلي دائمًا لأجلكم ولأجل مستقبلكم ونشكر الله على كل واحد وواحدة فيكم وعلى ما قدمتموه للجماعة من خير.
الأخ والصديق يوسف بالي: يقيم معنا منذ عشر سنوات وأصبح من الأشخاص المقربين والمميزين ليس فقط لأفراد الجماعة ولكن أيضًا بالنسبة لأهالينا ولكثير من أصدقائنا في سوريا وفي الخارج. له حضوره المساعد في الأعمال الديرية وفي حياة الصلاة كما أنه يضفي على جلسات الجماعة لمسة من اللطافة والهضامة والفكاهة.
وختاما نشكر لكم أيها الأصدقاء والصديقات الأعزاء، التزامكم معنا في كل هذا السنين، نشكر لكم مشاركتنا الحلم بعالم أفضل والعمل كلٌّ في مجاله لأجل الوفاق والعدل والمساواة بين البشر. نشكر لكم صلاتكم و تضامنكم مع سوريا ومع شعبنا المنكوب. إننا نقدر مساعداتكم وتبرعاتكم المادية مهما كان حجمها، ونطلب منكم أن تستمروا في دعمنا فبدونكم لا يمككنا أن نساعد الذين هم بحاجة، ولا يمكننا أن نستمر بمشاريعنا ونشاطاتنا.
أيها الإخوة والأخوات، لن نستسلم للخوف أو للحقد، ولن نسلّم لمنطق الضرورة والإنقسام. سنستمر في محبة العدو ومساعدة الفقير، سنستمر بالرجاء والتفاؤل رغم كل الظروف، سنستمر بالأمل والعمل لأجل السلام، سنستمر كما كنا وكما بدأنا ودُعينا إلى محبة العالم الإسلامي والمسلمين. سنكمل المسيرة معهم، مع من يرغب منهم ومع من يرغب من تلاميذ عيسى المسيح الناصري، بل مع كل من يرغب من بني البشر، سنكمل المسيرة نحو الأخوّة الشاملة والسلام العادل … معًا يدًا بيد نحو الشرق … إلى الأمام.
ميلاد مجيد
جماعة دير مار موسى الحبشي الرهبانية