يوم الجمعة 6 نيسان 2012
محاضرة الأب باولو دالوليو - الراهب بولص – عن العنف واللاعنف
الجمعة العظيمة
السلام عليكم
نرحبُ بكلّ الأصدقاء، الذين جاؤوا إلى الدير في هذه الأيام، وهي تعزية كبيرة فعلا لنا.
نحن لدينا محاضرة يومية في الحياة الرهبانية، ونتابع في تفسير نص وضعناه سنة 1997 لحياتنا الرهبانية.
ولكنّي اليوم، أحبّ أن أدخل قليلا في موضوع خاص بالرهبنة إلى حدٍّ ما، ولكنه يُساعد في البحث عن الأنسب، إن لم تكن الحقيقة كلّها، فيما يخصّ استخدام العنف في البحث عن حلولٍ، بما يتعلق بالقضايا الاجتماعية أو السياسية وغيرها.
إذا أخذنا الموضوع من طرف مسيحيّ بحت، أي بما يخصّ، المسيح عيسى بن مريم، نجده يرفض العنف تمامًا، نجده يرفض العنف في اختيارات حياته، مع أنّ الفكرة السائدة، أنّه لا بدّ من العنف للتخلص من الاستعمار الروماني، كانت في زمانه من البديهيات، إن صحّ التعبير.
بأيّ طريقة، نريد أن نتخلص من الاستعمار الروماني؟ إلا بالعنف، وبأيّ طريقة نتخلص من الفاسدين من الشعب اليهودي، الذين اتفقوا مع المستعمر "للدعس على رقبة الشعب"، وبأيّ طريقة تعود الشريعة الموسوية، لتقود الشعب إلى الحق والسعادة أمام الله، إنْ لم يكن بالقصاص والعنف؟
فالنصوص، تحدّثنا عن يسوع وهو المسيح المنتظر، والمسيح المنتظر هو شخص عنيف في النصوص الكتابية بوجهٍ عام، والشعب ينتظر قائدًا مسلحًا... مع بعض النصوص المُحيّرة، لأنها ترسم، بخلاف ذلك، وجهًا للمسيح المتألم، فمثلا في أشعيا، نجد المسيح المتألم والعبد المتألم، وهذا وجه آخر للمسيح، الذي يعاني صامتًا، الذي يشوّه معذبًا، ولكنه لا يبادر بالعنف ولا يصرخ ولا يدافع عن نفسه ولا يبغض.
ولكن الصورة العامة في النصوص الكتابية، عن المسيح المنتظر، هي صورة قائد جيش وإنسان حرب، ولكن يبدو وكأنّ يسوع، وانطلاقًا من بعض النصوص الكتابية ومن الوحي ومن نفحة الروح والإلهام الداخلي لقراره وحريته واختياره، أراد أن يكون مسيحًا مسالمًا رافضًا أساليب العنف.
فاليوم في يوم الجمعة العظيمة، المسيح يعاني من العنف وضحية عنف ومظلوم من قبل عنف وحشي، ونجدُ أحد تلاميذه يستلّ السيف من غمده، ويضرب أحد الأعداء الذين جاؤوا ليضربوا معلمه، وهنا السؤال: لماذا يحمل أحدُ التلاميذ سيفًا؟ ألم يتبلور موضوع اللاعنف بعد في الجماعة، يا تُرى؟ بغض النظر عن قول المسيح: "ومَن لا سيف عنده، فليبع ثوبه ويشترِ سيفًا" (لوقا 22: 36)، وقوله في مكان آخر: "لا تظنوا أني جئت لأحملَ السلام إلى العالم، ما جئتُ لأحمِلَ سلامًا بل سيفًا" (متى 10: 34)
يبدو أنّ الموضوع، حتى لغويًا، لم يتبلور مئة بالمئة إلى هذه اللحظة، ويسوع صار "بخانة اليك" في موقف حرج، نستطيع أن نقرأ الموقف من هذا الجانب، لأنّ أحد تلاميذه خانه، فعرفوا أين هو وأتوا ليأخذوه، ، وظنّ أحدُ تلاميذه، أنّه من الممكن بضربة سيف إثارة بعض الضوضاء والهرب أثناء الليل، ثمّ إيجاد الوقت للتفكير بما يُمكن فعله لاحقًا، والفرج يأتي من الله.
في النصوص شيء من التأمل بهذا الخصوص، من جهةٍ يوحنا في الفصل الثالث عشر أكثر مَن يبحث به، فهو يعالج الموضوع صراحة: هل المسيح هو مسيح سلم؟ لأنّه يقول: جئتم إليَّ بالعصي والسيوف والسلاح، وأنا كان بإمكاني أن أطلب من أبي، وهو يفيدني بأكثر من كتيبة ولواء من الملائكة من الجنود السماوية...، فلو تدخَّلَ الملائكة، كان الموضوع محلولا من أصله!
منذ تجربة الصحراء، عندما حاول الشيطان أن يجرِّب يسوع من هذه الناحية، قائلا له: ارمِ بنفسك من الهيكل إلى أسفل، وطِر مع الملائكة تحطّ مثل الحوامة على المدينة، ويعبدك الجميع. كان الموضوع محلولا، طالما كلّهم يعبدون السُّلطة أصلا، والجميع يحبون أن يعبدوا السلطة، وإن شاهدوا إفراطًا بإظهار السلطة، يشعرون بتعزية روحية ويفرحون ويسكرون سكرة صوفية! فيسوع قال للشيطان، ملاك الشرير، حين ذاك: "لا تُجربنّ الربّ إلهَك"، فالاختيار هنا في الوداعة خيار ضمني، وابن مريم، اختار أن يكون المسيح الوديع المتواضع القلب، المسيح المسالم.
وهذا واضح تمامًا، في موقفه في إنجيل متى في الفصل الحادي عشر، إذ قال: "أنا الوديعُ والمتواضعُ القلب، تتلمذوا لي"، فإذا هو يضع برنامجًا لتلاميذه، ودخوله إلى القدس على "مرسيدس-الجحش"، يبلور قراره بأن يحقق صورة المسيح العبد الوديع المتألم، هذه الصورة الأقلية، إن صحّ التعبير، أو الثانية في الكتاب المقدس في العهد القديم، لأنّ المشهد الكتابيّ الأول كان لصراعٍ مسلح، ومسيحٍ قائد جيش منتصر، يقود الأممَ بعصا من حديد.
ولكن، كما قلتُ، في أشعيا وفي زكريا وآخرين، وأحيانًا بتناقض رهيب، الصورة متناقضة، فنفسُ النبي يتكلّم عن مسيح قائد جيش وعن مسيح متواضع، ويبدو أنّ يسوع، كما يقول تلاميذُه: فيما يُعدّ محققَ النبوءات، هو أيضا مغربل النبوءات، وليس فقط محققها، فالذي يعجبه يحققه والذي لا يعجبه يفسّره رمزيا، والذي يميل إليه يطبقه بحرفيته، وما لا يميل إليه يعالجه بنظرية.
فيبدو أنّ ليسوع برنامجًا ووعيًا وقرارًا، كما لو أنّ كلّ الأمور في المسيح ليست مسبقة الصنع، مسبقة القرار، مسبقة الطبخ، ولا نراه يأتي مع "باكيج" مذهبي، أو وصفة مذهبية جاهزة، فيسوع يحتكّ بواقع بلده وشعبه وبالناس، ويخرج انطلاقًا من بئر ونبع وعمق وعيه "المشيحاني" (إدراكه أنّهُ المسيح المُنتظر)، من شخصيته، من ذاته، من قدَره، من ماهيته.
واليوم هنا بيننا مسيحيون ومسلمون. بالنسبة للمسيحي، يسوع يستقي ويستخرج موقفه من عمق اتحاده بالله تعالى، فيسوع ابن مريم الإنسان، وهنا أستخدم صورة، كأنّ في آخر لا وعيه وأيضا في آخر وعيه، هناك منفذ إلى الإدراك الإلهي الضمني الذاتي، لأن ّيسوع في عمقه يحقق الرغبة الإلهية، بحسب ماهيته كابن الله.
أما إذا أردتَ أن تقول بأنّهُ رسول الله أو نبي، الأمر لا يختلف كثيرًا في هذا الموضوع، بمعنى أنّ النبي المُرسَل من الله في عمق عمقه على صلة بـ الـ(كن) اللفظ الإلهي، الذي يأمره بشيء أو يلقنه شيئًا.
وهنا إشكالية كبيرة، هي مشكلة السيف، فبولص الرسول سوف يقول: "إنّ الحُكام بيدهم سيف لتوطيد السلام والسلم والأمن والأمان للمواطنين، وهذا السيف من الله من خلال التنظيم الطبيعي للمجتمع"، وإنّما، وأنا أفكر اليوم بالاحتفال في روما بيسوع الوديع المتواضع القلب، أرى كذا ألف شرطي مسلح وكذا حوامة تدور في أجواء روما، دفاعًا عن البابا خليفة بطرس، التلميذ الذي هو نفسه مَن استلَّ السيف، وحول البابا كذا حارس شخصي مِن الذين عيونهم نار والمسدس تحت السترة، وعلى الناس الذين يدخلون إلى مكان الاحتفال أن يمرّوا من الأجهزة والآلات المختصة لكشف ما يحملون في ملابسهم. فالموضوع أمني مئة بالمئة حول الاحتفال بالوديع والمتواضع القلب، والإكليرس والرهبان طبعًا ليس معهم سلاح، ولكن معهم هواتفًا محمولة خاصة متصلة مباشرة مع الشرطة والأمن، وهذا سلاح طبعا! وهنا أنا لا أنتقد، فقط ألاحظ!
بالفعل هناك إشكالية، ففي أمريكا يوجد جماعة مسيحية تدعى "الهاميش" تُحترَم جدًا جدًا، وهي فئة من جماعة مسيحية بروتستانتية تدعى "المانونايت" وهم جماعة بكامل الوعي و"من قلب ورب" بشكل جدّي، يرفضون العنف المسلح انطلاقًا من معموديتهم، ويريدون أن يعيشوا ودعاء مع المسيح الوديع، حتى أنّهم يرفضون التطور التكنولوجي وعندهم عربة تجرّها الأحصنة ويلبسون ثياب القرن التاسع عشر ويرفضون الكهرباء، لكنّ فوق رؤوسهم تحلّق (الأواكس) وهي طائرات الرادار التي تحمي الأجواء الأمريكية.
والسؤال: لماذا لا يذهبون إلى أفغانستان ليكونوا "هاميش" هناك؟ أو على الحدود مع المكسيك مع تجار المخدرات؟ "أحسن هامش"، وحتى في صقلية لا يمكنهم أن يعيشوا ولا ليوم واحد، إذا المسألة عويصة جدًا وأي تخفيف لها غلط.
ومع ذلك سألنَا الكثير من الناس، ويسألون: لماذا أنتم في دير مار موسى ليس عندكم سلاح؟ لماذا لا يوجد مَن يحميكم؟
ونجيب: إنّ في الموضوع حيرة: هل نطلب الحماية من هذا أو من ذاك؟ والموضوع ليس سهلًا.
للدير شيء من شكل القلعة، إذ يُقال: إنه عندما بدأت الحياة الرهبانية تنتشر في البراري حصلت مشاكل، فالأديرة كانت ضمن الإمبراطورية الرومانية على الأراضي المتاخمة للبرية الخارجية التي كانت غير مضبوطة تمامًا، مما جعل الرهبان مثل حمامة في الجبل، وكلّما صار عندهم بعض المخطوطات وبعض البذور والطعام، يأتيهم الغزو ويأخذ كل شيء.
ولأن الحراس لا يستطيعون أن يضعوا يدهم على كلّ شبر وعلى كلّ قبيلة في البراري، وبالنسبة للنظام الروماني كان الموضوع مُربِكًا، لأنّ بين الرهبان مواطنين رومانيين "معهم كرت أخضر"، اضطرّت السلطة الرومانية، لأن تنظم ردّات عسكرية على هؤلاء لاسترداد الأمتعة والمخطوفين والأغراض... فالقضية دبلوماسيًا مزعجة جدًا، ولذلك فرض الإمبراطور على الأديرة المتاخمة للبرية، أن يكون لكلّ ديرٍ برجٌ، ليحتمي الرهبان في حال تعرُّضهم لأيّ غزو.
والبرج دفاعيّ لا هو وديع ولا متواضع القلب، وشكل النوافذ دفاعية وفوق الأبواب فتحات لصبّ الزيت على من يحاول تكسير الباب، وهكذا "طلع للرهبان أظافر"، فالموضوع مُلتبس.
ومع ذلك، نحن نعتقد أن علينا أن نتخذ القرار بعدم حمل السلاح، لأنّ قرارنا هذا كتلاميذ مقربين من المسيح وشهود لقراره، يجعلنا على مثاله ودعاء ومتواضعي القلب، إن شاء الله، ومن الممكن للوداعة أن تتحقق في الواقع، ولكن تواضع القلب يحتاج إلى جهاد آخر.
يا أحباء والحيرة هنا حقيقة وليست مسرحية.
إن بابا روما لا يحمل سلاحًا، ولكنّه على صلة مستمرة مع حراسه، ويعرف أولادهم ويبارك أعراسهم، وهذا ليس أمرًا مفروضًا عليه من الدولة، أو من الخارج وهو لا يريد شيئا من هذا، لا، كلّه منظم، ناهيك عن جيوش الدول المسيحية، وعن الكهنة والمطارنة المهتمين بالإرشاد الروحي والديني للعساكر، واحتفال بركة السلاح وهلم جرا... "لا جديد على الشاشة"، إنه أمرٌ استمرّ عبر الأجيال.
وقبل ذلك، لنقل أنّه في هذه الجماعة المتناقضة جدًا والمتصارعة جدًا، الخائنة في كثير من الأحيان للمسيح الوديع، هناك بعض الرجال والنساء، وكأنهم مختارون من قبل المسيح، يكرّسون أنفسهم بنذور العفة والطاعة والفقر الرهباني، ومنهم من الأهالي المتزوجين من العلمانيين، والذين بسبب قربهم من الوديع يختارون لأنفسهم نذرًا أو قرارًا أو موقفًا، تلقائيًا أحيانًا، ودون تفكير كثير أحيانًا، بالتزام اللاعنف.
نأخذ مثلا عن شاب يقول: أنا عسكري، لا أريد أن أذهب، لأنني من داخلي وعمق عمقي، أحس أنّ هذه ليست مهمتي. ويقولون له: نضعك في السجن. ويجيب: نعم ضعوني في السجن... لدرجة أنه في بعض البلدان، اضطروا أن يضعوا قوانين خاصة بالأشخاص الذين يرفضون حمل السلاح لأسباب روحية، لأسباب ضميرية دينية.
والحلول على أنواع مثلا: غاندي أثناء الحرب العالمية الأولى قرر أن يتطوع في الجيش البريطاني، ولكن في الخدمات الطبية. فهو من جهة يريد أن يظهر تضامنه مع هذه الوحدة البشرية وهذا الترابط البريطاني-الهندي، ويريد أن يظهر شيئًا من التضامن في الأزمة الكبيرة أي الحرب، ولكنه من جهةٍ أخرى يأخذ موقف اللاعنف، فالموضوع عنده يتطور.
يسألونني في هذه الأيام في الإذاعات: ما موقفكم من الحرب الأهلية؟ ما موقفك من تسليح المعارضة ؟
أنا أقول: يا جماعة، أنا راهب في البرية، ما الذي تريدونه مني؟ أن أصطفّ مع جيش ضدّ جيش مع جماعة ضدّ جماعة، مع مسلحين ضدّ مسلحين، في وقت فيه الحاجة الحقيقية العميقة أن نرفض منطق السلاح المسلح. فطلبتُ، بضرب من الجنون، خمسين ألف مرافق سلمي، نعم مرافق لا مراقب، لا عنفي ليأتوا ويطفئوا النار بأي وسيلة.
فالأمر من مسؤولية المجتمع العالمي أمام هذه الأزمة المحلية، التي هي جزء لا يتجزّأ من مشاكل دولية. لذلك فليأتوا بموقف اللاعنف، وبعد ذلك إذا جاء لص ليسرق، لا بدّ من منعهِ، لكنّ هذا بحث آخر، فالمطلوب هو الخروج الإجمالي من منطق الحلول العنيفة واستخدام السلاح من قبل المجتمع العالمي.
نحتاج اليوم أن تكون إستراتيجية اللاعنف هي الاختيار الأول والمفضل لدى الأمم، والذي نعتقد كلنا أنّه الأمثل والأصح... وبعد ذلك إذا وُجد مَن يمسك سلاحًا وبدأ يطلق النار على الأولاد في المدرسة، وفي المنطقة شرطي يستطيع إيقافه فليوقفه، ولكننا لا نربي كلّ الجيل على استخدام العنف خوفًا من مجنونٍ واحد.
لدينا قناعة، أن اللاعنف عند الأكثرية، يطفئ عنف الأقليات أو الفئات أو الأشخاص الذين يختارون العنف، لكنّ الموضوع في تقليد التعليم الكنسي لم يكن سهلا، وفي هذا الأمر كما في أمور أخرى رأت الكنيسة في المسيح الشخص الأمثل والقطب الجذاب باتجاه ممارسة مثلى للفضائل.
وفي الوقت نفسه، رأت أن تدبير المجتمع في هذا الجيل وفي هذا الوضع يحتاج إلى تنازلات معينة، لترتيب الواقع على أحسن ما يمكن نسبة إلى الظروف، من تربية الناس، من جهل الناس، من تخلّف الناس، من عنف الناس، من عنف المنطقة، من عنف المحيط من من من... مما يجعل هذا البحث عن "الشرّ الأدنى" أو أخف الشرّين وأصغر المصيبتين، ضروريًا باستمرار.
أحيانا في التربية حتى في البيت، عليك أن تختار أمام مشكلة عويصة، لا تخرج منها إلا بخسارة، أين هي الخسارة الأخف؟ فإذا كان الدافع، وهنا المهم، إذا كان الدافع إصلاحيا، إذا كان الدافع حبّ الجميع، إذا كان الدافع الخير العام، هذا دافع عظيم، ولكن يصعب جدًا إدخاله في قلوب الناس.
لقد اضطرت الكنيسة أن تطير فوق حقول يتحارب فيها المسيحيون على فئاتهم وقومياتهم وإمبراطورياتهم ومصالحهم وكراسيهم، مع كهنة مصطفين من اليمين واليسار. فمشكلة العنف داخل الكنيسة، ليست هي بالأساس مشكلة مع المسلمين أو مع اليهود أو مع الهنود الحمر، المشكلة في الكنيسة مشكلة داخلية، فاستعمال الخنجر والسيف والعنف والتعذيب مشكلة من داخل البلاط البابوي في روما مع الحبس والزنزانة وأدوات التعذيب...
مما يعني، أنّ الموضوع ليس بسهل وممتلئ بالخطيئة، ومشبع بالخطيئة والخيانة والتبرير المذهبي، والتسربل بأرجوان حجّة الضرورة وبمنطق الضرورة. فالعنف دائمًا يبرر نفسه باسم الضرورة، وعدم وجود حل آخر، ويبحث عن شحن البغض لأن العنف بلا بغض لا يعمل. فإذا كنت تشعر بحبّ كبير لعدوك، فمن الصعب جدًا أن تعذبَهُ.
إذا أراد شاب، في يومنا هذا، أن يعيش بموجب الشرع الإلهي، وأراد أن يحقق الإنجيل، فيسأل: ما المبادئ التي تنظم استخدام العنف أخلاقيا في الكنيسة؟
منذ عدة أيام قال قداسة البابا من شباك الفاتيكان في روما: إنّ العنف دائمًا من الشيطان. ونتساءل: هل العسكر ورجال الشرطة الذين حولك كلّهم من الشيطان؟ هؤلاء إذا لم يتدربوا على "ضرب الرصاصة بين العيون" وإطلاق النار بمهارة ودقة، لماذا أتوا للدفاع عنك؟
أنا أستغرب، فالمبدأ العام، هو مبدأ هام جدًا ومُعترَف به دوليًا "الدفاع عن الذات حلال"، لا بل في بعض الأحيان واجب، بحسب الأوصاف الخاصة بهذا الشخص ضمن مجتمع ما.
إذا كنتُ أمًّا أرضِعُ طفلي، ليس مطلوبا مني أن أحمل السلاح، إنما المطلوب أن أحميه بجسمي من أيّ شيء ممكن الحصول، وواجبي أن أحميه، لكن ليس من الضروري أن يكون مع كلّ أمٍّ عندها رضيعٌ مسدس في جيبها ضدّ أي احتمال سيئ، بل على العكس الأم التي معها الرضيع، تحميه من أي خطر كانهيار سقف أو هجوم قطة أو... وتدافع عنه بجسدها، بينما تقليديا لذكر البيت دور آخر بالنسبة لحماية البيت.
وبهذا المعنى الراهب والراهبة، على غرار يسوع الوديع، يمثلان القفزة النوعية التي نطلبها للبشرية كلّها، باتجاه اللاعنف، باتجاه السلم، باتجاه القناعة الأخلاقية العميقة، باتجاه التربية لا القمع، التربية لا القصاص، التربية والقناعة لا الهيمنة، فهذا ما نريد أن نمثله في حياتنا. ونطلب من الله أن يعيننا ويساعدنا من أجل علاقاتنا الداخلية، والتي الرصاص ليس ضروريًا فيها، لأنّ العنف أحيانًا يأتي بطرقٍ أخرى...
ومع ذلك، الكنيسة واعية تمامًا، واليوم تشعر بحيرة أكثر، بينما في الماضي بحيرة أقل وبفشل أكثر، بأنّ الدفاع عن الذات واجب، لا سيّما وأنّ الشخصُ عندما يدافعُ لا يدافع عن نفسه فحسب، بل عن الجماعة، عن الحق، عن الإنسانية، عن الحضارة، عن الخير العام. مما يفترض أنني لا أفكر بفئتي، بطائفتي، بجماعتي بل أفكر بمجتمع بكامله.
اليوم في "مالي" انقسم البلدُ إلى قسمين. في الشمال الطوارق والقاعدة أخذوا نصف البلد، وفي الجنوب الشباب الذين قاموا بانقلاب عسكري بقيوا على النصف الثاني، ويعلم الله مَن أعطاهم النقود ليقوموا بهذه الفوضى، والمجتمع الدولي الآن يقف متفرجًا، ويسأل ما العمل؟ نحن نتكلم عن مالي في إفريقيا، ونحن في آسيا...
المشكلة أنّ الحرب في ليبيا لها نتائج وخيمة، فقد دخل الشباب الذين كانوا مع القذافي إلى "مالي"، ودعموا الحركة الانقسامية وأخذوا نصف البلد، والآن ما العمل؟ إذا اختار المجتمع الدولي التدخل العسكري، سيدفع البلدَ إلى المزيد من الفوضى ويصنع صومالًا جديدة...
أما إذا أردنا أن نتكلم عن آسيا، الآن، واضح تمامًا أنّه لولا هذا المستوى من الإنسانية، من القبول والمحبة لبعضنا البعض في هذا البلد، كانت الأمور تدهورت نهائيًا منذ عدة أشهر. إنّ ضبط الذات من معظم المواطنين، والإسعاف الإنساني من معظم المواطنين لمعظم المواطنين، هذه التربة الإنسانية الحضارية الثقافية الروحية الدينية لدى السوريين، هي ما يجعلنا لا نفقدُ كلّ الرجاء، من بعد ما فقدنا معظمه.
والمشكلة الكبيرة في المبدأ الأخلاقي للدفاع عن الذات، الذي هو مبدأ حقيقي وصحيح، أنّ كل واحد يراه من طرفه الخاص، وبالتالي أنا أرى أنّ من واجبي الدفاع عن نفسي ضدك، وأنت تدافع عن نفسك ضدي، ونحن نتقاتل "من قلبٍ وربّ" بكلّ جدّية. كلنا للخير العام، ولكن لكل منا منطلقه الخاص وانتماءاته.
إنّ الحاجة إلى جسور إنسانية تفتح المجال للتفاوض، وعندئذ الدفاع عن الخير العام، الأكثر عمومًا، هو ما يجعلنا قادرين على أن نجد قواعد مشتركة كافية لاجتياز الأزمة العنيفة. لكن لا بُدّ، وللأسف الشديد في كثير من الأحيان، لتفاقم أسباب الأزمة أن يأخذ حقّه، إنْ صحّ التعبير، حتى تعمل في الناس من جديد تلك الطاقة القادرة على أن تجذبهم للتقارب نحو بعضهم البعض.
فالحفاظ على ثقافة السلم أولوية، لأن ثقافة السلم إن لم تكن موجودة، فلن تكفي القرون لإيجاد الحل. إن لم توجد ثقافة الاعتدال فلا تكفي القرون، كذلك إن لم تتوفر ثقافة الغفران فسينتقم الناس من بعضهم لأجيال وأجيال. لا بدّ من أدوات ثقافية تسمح بالتعويض عن الدم بشيء آخر بديل عن الثأر. تكفينا قرون من الانتقامات، ودائما باسم الدفاع عن الذات!
هذا المبدأ صحيح وضعيف للغاية في آنٍ معًا، فالذي لا يجتاز مبدأ الدفاع عن الذات، لا يحصل على مبدأ الخير العام. فلا بدّ لمبدأ سامٍ يتفوّق على مبدأ الدفاع عن الذات، حتى نعرف بأي وسيلة بوسعنا أن ندافع عن أنفسنا، بطريقة لا تتناقض نهائيًا مع مبدأ إيجاد الحلول، وفقًا لمبدأ الخير العام التوافقي.
وهنا نتعرّض لتناقض رهيب، بين مبدأ العدل والإنصاف، ومبدأ التوافق والمصالحة والغفران. فبعض الجماعات في منطقتنا، تركيزهم على مفهوم العدل كمفهوم إنصافي، يتشنج إلى درجة أنّه لم يعد هناك مخرج للسلم، لأنّ المجال للتفاوض تضيّق نهائيًا.
هناك مبدأ هام جدًا في اختيارات استخدام أو عدم استخدام العنف، هو "محاسبة النتائج". فلا يحقّ لي أن أقول إنّ لي الحقّ بالدفاع عن نفسي، وفورًا أطلق النار على الآخر... بل على عكس ذلك، عليّ أن أحسب النتيجة بالنسبة إلى الخسائر التي سيحتملها هذا الجيل. يجب دارسة المعطيات دراسة واقعية، إذا أردنا ألا يجرّنا استخدام العنف إلى منطق الحرب الأهلية المفتوحة، وإلى تقسيم البلد كتحصيل حاصل.
وهنا أضيف: علّمنا يوحنا بولص الثاني، وهو الرجل الذي ربّته كوارث الحرب العالمية الثانية على رفض العنف بجميع أشكاله، أنّ الغفران، الذي يفترض دائمًا شيئًا من الخسارة، يدخلُ كمكوّن ضمنيّ لمفهوم استرداد العدل، والذي يُشكل الشرط الأساسي للمصالحة المؤدية إلى السلام المستدام. بيدَ أنني ألاحظ أنّ الكثير من البلدان المسيحية بالاسم، ماهرة في فرض الغفران دون تعويض على غيرها، والمطالبة بالحقوق دون أي تنازل... وهل هي حقوقٌ فعلا!؟
في دراسة الدوافع للدفاع عن النفس، لا بدّ من أخذ أحجام النتائج بعين الاعتبار.
ترون أنني في حديثي، لم أميّز بين كلمة عنف وكلمة قوة، كما يحاول أن يعمل البعض، قائلا إنّ القوة الشرعية ليست عنفًا، بمعنى أنها لا تتصف بنفس البشاعة الأخلاقية والانحراف.
رجل الشرطة الذي يدافع عن المجتمع، ويضطر أن يضرب شخصًا، وبعد الظهر يعالجه ويضعه في السجن بحبّ، وهو أب لعائلة وضميره مرتاح، ليس لديه عنف، ليس عنده بغض ضدّ اللص الذي واجهه. ليت رجال الشرطة كانوا كلّهم كذلك!
تستطيع أن تكون أبًا مُحبًا لولد طائش، وتضطرّ لضربه حتى تمنعه من فعل سيء. بهذا المعنى عليك أن تعالج قلبك من العنف أي البغض، حتى تستخدم القوة للخير والحبّ.
كم مرة نلاحظ حتى مع أنفسنا بغضًا وقلقًا وانزعاجًا... فنؤذي أنفسنا، نعمل حادث سيارة، نضع يدنا في آلة فرم اللحم، نجرح يدنا بسكين المطبخ... فإنّ قوتنا تعود علينا، لأنّ العنف موجود فينا، والبغض موجود فينا، وحين لا يجدُ مخرجًا يعود على ذاتنا.
فمعالجة العنف الداخلي، الكره، البغض، الرغبة في الانتقام، شهوة الثأر في ذاتنا، تُسمى الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس، وكم نحتاج إليه! يُقال إنّ هذه المهمة لا تنتهي بعمرٍ واحد... إلا أننا لا نؤمن بالتقمص، بل بممارسة المسؤولية الكاملة في هذه الحياة الحاسمة.
فهذا الشغل على العنف الداخلي مهمة كبيرة، والكلّ مكلَّف بها، كلّنا لا فرق بين رجال ونساء، لأنّ العنف يخصنا رجالا ونساءً، ولو أنّ للنساء استخدامًا آخر للعنف، لكنّه موجود: الحسد، الغيرة، الكره، المنافسة، فالأمهات يبغضن في البيوت، وأولادهنّ يتقاتلون في الشارع.
وعندما يحصلُ الإنسان، بنعمة من الله وبجهده، على شيء من هذا السلم الداخلي، عندئذ يستطيع التمييز إلى أيّ درجة بإمكان استخدام القوة أن يكون مُبررًا. فيميز ألا يوجد حل آخر في هذا الظرف؟ وهل ممارسة العنف، هي الوسيلة المُثلى الباقية لحماية الخير العام، سدّا لعنف مقابل، إن لم نضع له حدًا، يسبب خرابًا لأجيال كثيرة...
ولكنّ على كلّ هذه الاعتبارات، أن تخضعَ دائمًا لقانون المناسب والأنسب نسبة إلى غاية. أي إخراج العنف من المجتمع، وعدم استخدام القوة إلا لهذه الغاية، فعلى القوة أن تضبط العنف. وهنا مفهوم استخدام القوة ضدّ العنف، ومن المؤشرات الواضحة على أنّ هذا الفاعل يستخدم القوة ضدّ العنف، وليس بدافع منه، أنّه يحترمُ العدو في جسمه وكرامته ولا يعذبه.
إنّ حقوق الإنسان وحماية حقوق الإنسان، وحتى حماية حقوق عدوّك وكرامة إنسانية عدوّك، هي من المؤشرات الرئيسية على أنّك تستخدم القوة ضد العنف، ولا تعبِّرُ عن بغضك المفرط وعن مخاوفك الخيالية. إنّك هنا على محكٍّ مباشر، فاستخدام القوة ضدّ العنف، يقترن دائمًا بالحقيقة، واستخدام العنف ضدّ الحق، يقترن دائمًا بالكذب، بتبريرات من خلل الدعايات (الادّعاءات).
ونحن نرى في مجتمعنا أن العنف موجود من كلّ الأطياف، والمخاوف موجودة في كل الأطياف. وبالتالي، من الصعب جدًا أن تختار مع مَن تصطف، إذا أردت استخدام قوة مشروعة ضدّ العنف المفرط، سيّما وأنّه وعلى المدى البعيد، الأمر الأساسي الذي تحتاج إليه المجتمعات المشرقية والعالم كلّه، هو أن تشتهي العيشة المشتركة، ضمن مجتمع يحافظ على الحقوق في المفهوم التعددي.
وأخصّ هنا المجتمعات المشرقية: العراق، تركيا، سوريا، فلسطين، لبنان، الخليج كلّه، والتي كثيرًا ما أراها عاجزة عن الحياة المشتركة، دون سيطرة جماعة على جماعة ، عن اختيار بشكل طوعي وبإرادة المواطنين الكاملة.
ونوعًا ما هذا نصيب العالم كلّه، لأنّ العالم كلّه صار "خليطة مليطة" مزيجًا مختلطًا، فمن المستحيل أن نعود لفصل الهنود الحمر عن الأمريكان، وفصل سكان المكسيك الأصليين عن الذين دخلوها في القرن السادس عشر، أو التمييز في فرنسا، فنجمع كلّ مسلمي فرنسا في مرسيليا وكلّ بروتستانت فرنسا في الغرب... ونقسّمهم كلّهم، والأمر نفسه في إيطاليا، هل هذا المشروع معقول؟
نوعا ما هناك رموز لمجتمع الخليطة، مثل مدينة نيويورك، والتي تشكل اليوم رمزية للشبيبة، لأنه لا يوجد مثلها في الخليطة الموفقة، من المؤكد أنّ فيها مشاكل عنف ومافيات... وكلّ المشاكل الأخرى أيضًا، ولكنّ هناك اتزانًا ما لمعالجة هذه الإشكاليات، ضمن مدينة تعيش اتزانًا مُستدامًا.
فمُجتمعاتنا المشرقية، تتمسّك بالانتماءات الدينية أو الإثنية أو اللغوية، وفي الوقت نفسه، تشتاق إلى تحقيق مجتمعات قومية ناجحة تعددية، ولديها إشكالية الصراع مع الكيان الصهيوني منذ أجيال، وهناك المشاعر بالهيمنة الغربية على المجتمع العالمي، بما فيه مجتمعنا، فقد توفرت كلّ المكونات لإفراط العنف من جيلٍ إلى جيل.
لذلك تهربُ شبيبتنا، وهذا تصرف معقول: عندما لا أستطيع أن أواجه العنف المفرط داخل مجتمعي بنفسي، وبإمكاني أن أهرب، فمن الحكمة أن أهرب، راجيًا أن يستطيع المجتمع الدولي يومًا ما، أن يضع ما يُشبه زنار أمان حول هذه المنطقة، ويستخدم آلات لشفط العنف كما من مستنقع. أقرُّ أنّ في هذا الكلام شيئًا من الفوقية الأبوية، فأين هو هذا المجتمع العالمي المثالي غير العنيف، الذي بإمكانه أن يهتمّ ببقع العنف المحلية، وكأنها استثناء عن قاعدة؟
إنني أرى، ولستُ الوحيد، أنّ العنف العالمي في الواقع يشكل قاعدة، ونحن في مشرقنا لسنا إلا ظاهرة مستفحلة للقاعدة العامة.
إنّ هذا صحيح وغير صحيح بآنٍ معًا، لأن هناك فرقًا بين العالم اليوم على صعيد الحقوق والعالم في القرن السابع عشر، وهذا المسير وهذا التقدم الرهيب الذي سجّله المجتمع العالمي على صعيد الاعتراف بالحقوق، لا نستطيع أن ننكره تمامًا، لأنه ناقص، ولأننا نرى أن عليه أن يُستكمل.
ولكنّ هناك مَن يتشاءم من المجتمع العالمي لتبرير العنف المحلي، فعندما يَشتم أحدهم المجتمع العالمي كثيرًا، انتبه!، إنه يريد أن يبرر عنفَهُ المحلي، ويتحجج بنقائص العالم لتبرير عنفه هذا، أللهمّ، في تل أبيب كما في أي مكان آخر...
أظنّ أنّ عليّ أن أنهي المحاضرة هنا، لأن اختيارك، يا أخي، لن يكون اختيار أي شخص آخر، فلكل منا خلفية، وحتى في معالجة موضوع العنف المحلي، هناك شيء اسمه مشاركة، وهناك شيء اسمه عدم مشاركة، هناك شيء اسمه مكافحة، وشيء اسمه محاربة، وشيء اسمه... فالمواقف عديدة، وأنا أستطيع أن أختار اللاعنف كموقف لي، وفي الوقت نفسه، أنا على صلة طيبة مع أشخاص اختاروا النزول بقوة في الحراك لسبب أو لآخر، مع طرف أو مع طرف آخر.
في الواقع، أنا أستقبل في دير مار موسى كلّ الناس، فمن الممكن، أن يأتي إلى الدير شاب من المخابرات موجود في جبهةٍ، وأنا أقول له: انتبه على إنسانية مَن يهاجمُك، لأنّ إنسانيتك ومحافظتك على إنسانيتك، من محافظتك على إنسانيته.
ومن الممكن، أن يمرّ من هنا شباب ذاهبون إلى بابا عمرو، وأنا أقول لهم: انتبهوا على إنسانية من تعتبرونه عدوَّكم، لأنك إذا كنتَ وحشيًا مع عدوك، الوحشية تتسرب إلى قلبك، وتكون أنت أكثر وحشية، ولا تشكلُ أيّ بديل... إننا ننتقل من وحش إلى وحش، ومن وحشية إلى وحشية، وبعد ذلك، نحن ماذا نفعل؟ وإلى أين نذهب؟
فلذلك، قلنا مرارًا وتكرارًا في المجتمع العالمي: يا جماعة، تسألوننا عن مصلحة المسيحيين، إنّ مصلحة المسيحيين ألا يتقاتل الناس، لأنّ التطور السلمي يناسبنا، والتصعيد الحربي يرمينا خارج البلد، لأنه لا يتوفر هنا نموذج مناسب ومقبول لنحبه ونلتزم به، ناهيك عن أن معظمنا، ولا أقول كلّنا، وبالتأكيد ليس في دير مار موسى، لا يتمنون الانتماء إلى مجتمع ديني، فيردّون الفعل بعنف أحياناً، تعبيرًا عن مخاوفهم، وهنا أقصد المسيحيين.
إننا نصلي لكي يعود الحراك إلى مجراه السلمي، لكي لا ينزلق في عقم الانتقامات، التي لا تنتهي إلا بالتقسيم. ومثلا إذا كان هناك أخوان يحاربان بعضهما البعض، وكلٌّ منهما مظلوم من الآخر، وشتائم وسنوات خصام... وبعدها يذهبان إلى الشرطة ويوقعان تعهدًا ويبنيان، "حائطا بالحوش"، جدارًا في الفناء، ويقسمان البيت إلى جزأين، ويفتحان بابين على الشارع، و"خلصت السيرة" يُفضّ الخلاف.
من الممكن بعد ذلك، أن يُضايقا بعضهما البعض، فيرميان الأوساخ أو... ولكنّ الأمر يصبح بسيطًا، وقابلا للاحتمال، ولكنّ من الممكن أيضًا، أن يقتربا من بعضهما ثانية. أمّا أن يُنقل أحدهما كلّ يوم مجروحًا إلى المستشفى، سيملّ رئيس المخفر، ويفرض عليهما أن يتعهدا خطيًا، ويبنيان حائطًا وسط الحوش، ويفتحان بابين على الشارع، و"بنحط الحيط" وانتهى "ما خرج تكونوا إخوة".
طبعًا هذا حل تشاؤمي، وقد يقول أحدُهما: حسنًا لماذا لا نبني الجدار، ثم بعد ذلك رويدًا رويدًا، نعود إخوة، لأنك "سمكري" وأنا نجار، وكلانا بحاجة للآخر، وأنابيب المياه تمرّ من عندي إلى عندك، وأنابيب الصرف الصحي تأتي من عندك إلى عندي، وهناك الكثير مما هو مشترك بيننا في الحياة، وهكذا تدريجيًا نهدم الجدار.
فلا ندري ماذا يحصل في البلد، وأنا لستُ في دور المتكهن، وإنّما في موقع مَن يقولُ، انطلاقا من دير في البرية: بدون مَن يشكل قطبًا جاذبًا إلى التخلي عن القوة لمعالجة إشكالية العنف، ستستمر اللعنة على مجتمعنا وعلى المجتمع الدولي، ولن نستطيع أن نلد أولادنا إلا للعنف والقتال والبغض، وهذا ما لم نعد نريده.
فموقفنا، يخصّ سوريا اليوم وغدًا وبعد غد... وأمور أخرى قلناها في مقالات أخرى. فاحسبْ حسابك أيّها الشاب، أين تضعُ اختيارك، أين تضعُ حجمَك، أين تضع طاقاتك؟ وبالطبع عندما يطفح الكيل، ويتفاقم الأمر ويخرج عن السيطرة، "إذا ما كبرت ما بتصغر"، فمن الطبيعي عندئذ أن يجذب المرء إلى العنف. ولعل الخضوع له ليس بسلم! وهذا تمامًا ما علينا أن نعالجه في القلوب، لكي نعود إلى التعاطي المحبّ مع الظروف المُرّة.
وأظنّ أننا، أمام هذا التصارع الذي يزداد عنفًا لا قوة فقط، نرى أنّ الحاجة هي الحفاظ على أكبر عدد ممكن من المسالمين الودعاء، غير المستسلمين بل الناشطين في الإصلاح، الذين يلتزمون في الدفاع عن حقوق الإنسان، والذين يهتمون بالنازحين، والذين يخترعون مليون وسيلة للمقاومة اللاعُنفية ضدّ الظلم بالتصوير وبالكلام وبالقلم... لكي نفتح صلة وصل مع المواطنين كافة، وليس المسيحيين فقط، لنضمن غضروفا طريّا في هذه الركبة المتكلسة، بين هذه العظام المتصارعة المتحاكة.
وشكرًا لإصغائكم.