كتب صديق للدير تعليقاً على بياننا الصحفي الأخي
كتب صديق للدير تعليقاً على بياننا الصحفي الأخير:
رجاءً سلموا لي على أبونا باولو، وبلّغوه على لساني أن الاستمرار بالمساواة بين القاتل والضحيّة لم يعد يجدي نفعًا. بئس هكذا بيانات وعاشت سورية حرّة ديمقراطية.
وفيما يلي نص الرسالة التي كتبناها ردّاً على صديقنا العزيز:
السيد العزيز
شكرًا على السلامات الأخوية التي أرسلتها لي، وأشكرك أيضًا على ردّة فعلك على بياننا الختامي لأسبوع الصلاة في دير مار موسى في سبيل المصالحة الوطنية.
إنّك تقول: "إن الاستمرار بالمساواة بين القاتل والضحيّة لم يعد يجدي نفعًا. بئس هكذا بيانات وعاشت سورية حرّة ديمقراطية." نعم، إنني أشكرك على ردّة فعلك هذه لأنني أؤمن بالحوار والنقاش الحرّ وأحلم ببلد تُناقَش فيه الآراء بصراحة وانفتاح دون سيل الدماء واستخدام الكذب كسلاح سياسي.
صديقي العزيز، لا أخفي عنك أن كلماتك جرحتني في الصميم. ليس فقط لأنها تأتي من شخص أقدّره ورأيه يهمّني، بل أشعر بالجرح العميق لأنّه إذا كان السبب وراء ردّك المرير هذا ما كتبناه في بياننا وفي غيره في مناسبات سابقة فهذا كلّه لا يبشّر بالخير، لا بل يزيد قلق من يعتقد أن البلد سوف يُسلَّم، باسم الديمقراطية، لسيطرة فئة أخرى أصولية وعنيفة لا علاقة لها بالحريّات وحقوق الإنسان. ويعتقد هؤلاء الخائفون أن الشعب السوري ليس ناضجًا للديمقراطية وليس واعيًا للتآمرات الخارجية... فعنف القمع لديهم أفضل من السقوط في الفوضى والخضوع للأجانب.
أيها المواطن المُخلص، متى سمعتني أُساوي بين الضحيّة والقاتل الجلّاد؟ قضيت كلّ عمري وأنا أتكلّم وأكتب مدافعًا عن حقوق الإنسان ولا سيّما حرية الضمير والرأي والصحافة، ومتّخذًا مواقف واضحة ضدّ التعذيب والعنف السياسي والمذهبي.
شرّ البليّة ما يُضحك... اضطررت أن أُدافع عن نفسي وعن رأيي في الخارج، في الغرب، لأنّهم اعتبروني متشدّدًا في دفاعي عن العالم العربي والإسلامي ومُهاجمًا بقسوة النظام الصهيوني وشبكة الموالاة المرتبطة به حتى داخل الكنائس، وموقفي ضد الهيمنة الصهيونية واضح بالفعل بيد أنني أنتبه لئلّا أنزلق في موقف معادٍ للساميّة أو في بغضٍ يبعث في القلب مرارةً... وأُتّهم في سوريا بالصهيونية وبالموقف العدواني ضد الشعب السوري لأنني ما زلت أقرأ في الكتب المقدّسة وأحبّ إبراهيم الحنيف الموحّد أبا الأنبياء، المؤمن الحرّ من الانتماءات العرقية والعائلية، المُطيع لضميره وحده مهما كلّف الأمر... غدوت عدوّ الأمة في عيونهم لأنني أتكلّم مع كلّ الناس وأؤمن بالتطوّر الفكري والوجداني لدى كلّ فئات المجتمع. إنني تلميذ المهاتما غاندي ولا أخجل...
في سوريا كثيرون لا يريدون هذا التغيير الذي تريده أنت والذي أتمنّاه أنا، بَيد أنني لا أُسلّم لمنطق النزاع المسلّح والقتال المذهبي الشرس. أبكي وأنوح على دمّ الشباب المهدور في شوارعنا وأذهب إلى بيوت القتلى لتعزية الأهالي من أيّ صفّ أو جماعة كانوا لا لأنني لا أعرف كيف أميّز بين قتيل وقتيل بل لأنّ حزن الأمّهات واحد يخصّنا شخصيًا جميعنا.
إنّك تعلم أنّ الكثير من المسيحيين في هذا البلد يخافون من معظم من يسعى إلى التغيير... يخافون من الذين مثلك ويخافون حتّى من الذين مثلي... لهذا الخوف ماضٍ أليم ومُبررات معاصِرة. ليس المطلوب أن نستسلم له ولكن من واجبنا أن نُصغي إليه. إنّ مسألة الأقليّات في المجتمع الديمقراطي المعاصر هي مسألة حقيقية تُؤخذ بعين الاعتبار لاجتناب مجتمع ونظام تغلّبيّ مُسخّر من قِبَل المصالح المغطاة بالمبادئ. انتبه! مفهومي للأقليّات ليس بجامد ومقتصر على الانتماءات الدينية الطائفية، فإنّي، عكس ذلك، أقلق على مصير الأقليّات الفكرية والإثنية والطبقية والمذهبية... إنني أعرف درايتك بدرس أمين معلوف في كتابه عن الهويات القاتلة وبغيره من الكتّاب المتأصّلين في شرقنا والمتحررين من جموده.
غضبك لا يشككني وأرحّب بزعلك فمن تألّم أكثر من أهلك ومنك شخصيًا...؟ جاوبني أيّها الغالي، أين قدرات هذا الوطن لكي لا نسقط في منطق قمعٍ كلّيٍّ يسمح به، إذا سمح به، مجتمع الصفقات العالمية والحسابات الجيو-إستراتيجية العسكرية؟ من يدري، هل من المستحيل فعلًا أن تصبح سوريا كوريا شمالية أخرى أو بورما أخرى؟ أو هل يا ترى من المستحيل أن تصبح سوريا نسخة من لبنان الثمانينيات أومن جزائر التسعينيات أو من أفغانستان أو من العراق أو من الصومال...؟ تلومني وأنا ألتزم في الفكر والكتابة والجهد الروحي والمخاطرة بنفسي لكي تبقى لهذا المجتمع جسور وممرات وغضاريف للحفاظ على مجال الحوار بين المدعوين إلى العيش المشترك على كلِّ حال قبل وأثناء وبعد التغيير.
إنّ معظم الناس لم يبلغوا إلى النضج المدني والسياسي الذي تحلم أنت به وأنا أؤيدك. والتغيير المنشود لن يحصل إن شاء الله بطريقة "كمبودجية"... إنّك تكره أصحاب رؤوس الأموال وأنا أحبّهم كما يحبهم المسيح... ولكن سوريا الجديدة بحاجة لهم كما سوف تحتاج إلى من بإمكانه تشغيل شبكات الكهرباء والماء والري، وتحتاج إلى الشرطي في الشارع والجندي في الجولان... بوش وفولبوفيتس وتشيني وأصحابهم هم الذين خلطوا بين صدّام والشعب العراقي برمتّه وحاربوا كل الناس... لماذا لا تعود إلى درس الانطلاق إلى الديموقراطية في بلدان محترمة مثل الفيليبين أو تشيلي أو بولندا أو حتى إندونيسيا والبرازيل... اسمح لي أن أكره الحلّ الليبي، لا أحب الـ "زنقا زنقا". تقول: نحن أيضًا لا نحبه، هم الذين يفرضونه علينا... أفهمك وأطلب الستر من الله، بيد أنني مازلت مؤمنًا بصبر هذا الشعب النبيل وبالنضج السياسي لدى شبابنا الرائعين، نعم هؤلاء الشباب الذين شاركوا في كتابة البيان الذي أثار استنكارك، وهم الذين ينزلون إلى الشوارع في المظاهرات السلميّة حقًا والذين بكوا على رفاقهم المقتولين، لكنهم يعرفون لا بل يريدون سوريا قادرة على لمّ الجميع في مشروع واحد. كتبت عن الديمقراطية التوافقية وأيّدني مواطنون من كل الانتماءات ما عدا الذين يتصوّرون الميدان السياسي، محليًا وإقليميًا وعالميًا، كساحة للصراعات والمنافسات والبغض فقط، لأنهم يعتبرون الإنسان وحشًا والعنصر الصانع للتاريخ ضمن هذا المفهوم هو القوم لا الشخص وهذا فكر فاشي كما تعرف. كما أنك تعلم بخطر أن يتسلل إلى قلوب وصفوف المؤمنين بالإسلام شيء من هذا الفكر التوتاليتاري الشمولي، كما تسلل في الماضي ولم يزل إلى صفوف أتباع يسوع وموسى للأسف الشديد. لستَ بمغفّل وإنّك تعلم بخطر استمرارية التوتاليتارية عبر أنظمة متتالية ومتصارعة: من الاستعمار إلى الفاشية إلى ديكتاتورية الكادحين إلى ديكتاتورية رأس المال العالمي واليوم إلى ديكتاتوريات الانتماء الديني صهيونيًا أو إسلاميًا أو مسيحيّا (بوشيًا) أو هندوسيًا...
صديقي العزيز، إننا لا ندري إذا كنت وإياك "منروح في الطوشة" مرة أخرى مع الحرية والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان... رأيي أنا أنه من الأفضل جدًا جدًا أن نحاول استيعاب مخاوف غيرنا من السوريين، اللَّهم بدءًا من رئيس الجمهورية والمستشارة شعبان ورجالات الأمن والوزير المعلم وهلمَّ جرّا، لتخفيف الأضرار قدر الإمكان وبمساعدة كل من يمكنه المساعدة في البلد وخارجه شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.
دعنا نقول الأمور بصراحة إنّ ماضي البشرية، ماضينا نحن، ماضي أوطاننا ماضي أهالينا ماضي أدياننا كله عنف ودم وجلادين وأيضًا ضحايا ومعذّبين وفي معظم الأحيان تتبدّل الأدوار... هل نريد أن نتابع!؟
Subjects:
Themes:
- Log in to post comments
- 8174 reads