لم يكن فقط لخدمة العلاقة الإسلاميـّة المسيحيّة على الصعيدين المتوسّطيّ والعولمي أننا وجدنا من المناسب أن نعود إلى مسألة النّبوءة إنّ النّبوة وفعل الإيمان يشكّلان وجهين لحقيقة واحدة وهي الإمكانيّة والمقدرة على استقبال حضور اللّه-الشّخص ومبادرته في أعماق القلب وقمّة الشّخص في شركة الرّوح.
إنّ هذا الحضور للضّيف الإلهي ناطقٌ وخلاَّقٌ. آدم، كَوْنٌ مصغّرٌ، خُلِقَ بحسب النّصّ القرآنيّ مِثْلَ الكون برمّته من الأمر الإلهيّ ( كُنْ... فيكون )،(سورة آل عمران، الآية ٥٩) في التّاريخ وإلى الإنتهاء. وقد دُعِيَتِ الملائكة أي القدرات الرّوحيّةإلى أن تسجد لآدم (سورة البقرة، آية ٣٤ ) المخلوق من التّراب والنّفخة (سورةالحجر، آية ٢٨-٢٩ )، (سورة ص، آية ٧١-٧٢ )وهذا لأنّه نبيّ، يلفظ الأسماء،المعبّرة عن المعاني، الّتي أوحى له اللَّه بها، ويعلم ما تجهله الملائكة (سورة البقرة، آية ٣١-٣٣ ).
يرحِّب التُّراب بالشّكل كما ترحّب الحروف بالمعنى وكذلك الشّخص يُسَطَّر لوحَ طينٍ مدوَّناً بالمسماريّة.
أُخْرِجَ آدم من الأرض وأُخْرِجَتْ حوّاء من آدم، توازٍ تامّ، وإذْ دخلت نفخةُ اللّه حشا مريمَ البتول شكَّلَتِ الكلمةَبشراً. تضيع أصولُنا الآدميّة في ماضٍ من التّحوّلاتِ التّطوريّةِ اللاَّمتناهيةِ، بينما يصبح مستقبلُنا شذراتٍ من لحظة الحاضر، من بعدِ ما أصبح ممكناً وواجباً أن نتصوَّره كتقدّمٍ تدريجيٍّ للعالم الإنسانيّ،إلى ما خارج الكوكب الأرضيّ باتجاه تشتتٍ زمنيٍّ ومكانيٍّ لا حدود له، بهذا لم يبقَ سوى قوس حياة الشّخص المربوط ببدايةٍ خالقةٍٍونهايةٍ فانيةٍ، مقياساً باقياً ومفتاحاً لتأويل الوجود.
فعيسى ابن مريم، الشّخص، في ادّعائه الرّ هيب أن ينقضَ الهيكل في نفسه، نموذجاً للكون، مَقرّاً للمجد، وأن يُعيد بناءَه، يرشّح نفسه قِمَّةً وينبوعاً للمعنى، للحياةِ والنّور، بنظر تلاميذه، عندما فيه، في قوس حياته، يكتشفون رسمَ جودةٍ يعانق الكلَّ. فلذلك بعد ما ذاق مع مريم أُمّه مرارة التّرك، يصرّح بإتمام الكلِّ، (قد تمَّ كلُّ شيء، يوحنّا ١٩/٣٠ ) ولكنّ التّلميذ الّذي يكتشف ولادة الكنيسة السّريّة في خروجِ الدّم والماء من جانب الهيكل الأيمن يصرّح بأنّه الآن فقط يبدأالكلّ.
كلمة القرآن النّبويّة تركّز على التّوازي بل على التّطابق بين آدم والمسيح (سورة آل عمران، آية ٥٩ )،(قارن مع الكتاب المقدَّس (رومية ٥/ ١٤ ، ١كو ١٥ / ٢٠-٢٢ ، ٤٥-٤٩)).
إنّ تتلمُذَ الكنيسةِ ليسوعَ النّاصري واضح كتخطّ الشّرائع في إعادة خلق الشّخص بكونه الآخر في العلاقة، رجل ـ إمرأة، الّله ـ أنا، بين قمّة سيناء نبوّة موسى وغار حِرَاء نبوّة محمّد. بينما إلياس لا بل روح إلياس و روح أخنوخ (إدريس )ويوحنّا (يحيى) باستمرار تعود وإلى السّماء، تُخْتطَف على عربةٍ ناريّةٍ إلهيّةٍ.
موسى الّذي تكلّم معه الّله فما ً إلى فمٍ، لا يزال يبشّر بمجيء المسيح، وهكذا محمّد الّذي نزلت عليه الكلمة بشكل الوحي لا يزال يعلن عودته النّهائية.
كل ظاهرة نبويّة تحدث في نطاق لغويٍّ خاصٍّ محدودٍ بشكل طبيعيٍّ ملتبسٍ، وإذا كان هذا الأمر لا يبرّر الموقف الأصوليّ لمن يعتبر إحدى هذه الظّواهر النبويّة هي وحدها المطلقة، كذلك لا يُسمَح بممارسة الشّك السّاذج في حقيقة الخبرة النّبويّة وصدقها.
فقط من خلال الفهم الروحيّ المُمارَس في مستقبل الحوار والشّركة، يمكن لتلاميذ النّاصريّ الوصول إلى حقيقة نبويّة توحيديّة شديدة ونقديّة وظاهريّاً رافضة للعقيدة المسيحيّة كالنّبوّة المحمّديّة. لا يمكن لهذا الفهم الرّوحيّ أن يحدث سوى من خلال الّلقاء مع بني الإسلام عبر التقليد الرّوحاني الّذي يربط بينه وبين مسلمي اليوم حيث يلمس المسلم اليوم صدق النّبيّ في خشوع وتقوى الأنفس الأمينة المصليّة، المتضرّعة، والمصغية لأولياء الإسلام وصدّيقاته.
كتب أحد تلاميذ المسيح عن حجاب موسى الّذي وضعته الحكمة الإلهيّة لمنع استيعاب سرّ الجلجلة لكي لا يبقَ هذا السّر أسيراً في نطاق الشّعب المختار(٢كو ٣/ ٧ ـ ١٨) وكذلك أُسدل الحجاب نفسُه في القرآن سدّاً وردعاً لاستخدام هذا السّر المقدّس كوسيلة للهيمنة المسيحيّة الدّنيويّة،
تستخدم الثّقافة الأوروبيّة المعاصرة مصطلح (Post Christian) أي ما بعد المسيحيّة والمفهوم الشّائع لهذا المصطلح هو الثّقافة المدنيّة العلميّة والفلسفيّة الّتي لم تعد مبنيّة على النّظرة المسيحيّة الإيمانيّة بل على تخطّيها.
يمكن وبمفهوم أوسع الحديث عن (ما بعد المسيحيّة ) بخصوص نبوّة حصلت تاريخيّاً بعد المسيح كالإسلام مثلاً وأيضاً بالإمكان استخدام هذا المفهوم في خصوص الاستمرار الواعي والمسؤول لتقاليد دينيّة سابقة للمسيح إلى ما بعد المسيح وحتّى اليوم مثل الدّين العبريّ.
كما يمكن أن يعتبر (خارج عن المسيحيّة ) موقف الهندوسيين والبوذيين الذّين بقوا على ديانتهم عن قناعة بالرّغم من المحاولات التّبشيريّة تجاههم. وأخيراً في المصطلح ( ما بعد المسيحيّة ) رفض الحداثة وما بعد الحداثة لادعاء شهود القبر الفارغ. وبطريقة أو بأخرى يدور ال (ما بعد المسيحيّة ) بقوّةٍ جاذبة أو نابذة حول ذلك المحورواضعاً على المسيح كفناً واسعاً،
وفي سنة الألفين (٢٠٠٠ م) هذه، الّتي فيها حاولت الكنائس أن تبرهن المركزيّةالتّاريخيّة للحدث-المسيح يبدو وكأنّه يُبَرهَنُ عكس ذلك، وعبر ذلك فشل المسيحيّة التّاريخيّة، وقد كرّس فشل الهيمنة المسيحيّة نجاح عولمة أخرى جديدة تبدو أكثر قوّةً وفعّاليّةً.
إنّ فشل النّظام المسيحيّ يبدو وكأنّه يقابل تطوُّراً مناسباً لإعادة بناء التّتلمذ ليسوع كعلاقة شخصيّة. من إعادة البناء هذه تنبع الأمانة للقيمة الصّوفيّة الفائقة التّاريخ للشّخص الإنساني كونه ابن الّله.
مستقبل علامات السّاعة إذا،ً سوف نعيد كتابتها معاً رجال هذا الزّمن ونسائه، هذا الزّمن التّعددي المتشتت وبآن واحد عولميّ ومازج في توّجهٍ إلى الإمبرياليّة.
شخص النّاصرة الهامشيّ مع تلاميذه يريدون أنفسهم شهوداً لديناميّة العطاء والتّقدمة والشّركة بشكل حاسم كمقرٍّ رمزيٍّ وفعّْالٍ للمرور إلى اللاّمتناهي الأبديّ.
تقاليد أخرى أيضاً تشهد بأشكال أخرى لهذه التّطلّبات أو لغيرها،
إنّ السّاعة الأخيرة سوف نكتب عنها وسوف نصفها، سوف نحققها معاً إن كنّا مستعدّين للتّوبة والمصالحة والشّركة والحوار الُمسامِح المُحْتَمِل والعلاقات الُمحِبـَّة.
(أي التّقرّب المليء بالخشوع في حقيقة الآخر كشرط لإمكانيّة تقدمة الّشهادة للحقيقة الـّتي فينا. )
لذلك لا بدّ من الحصول على إمكانيّة جدليّة الإنتماءات المتعددة والدّيناميّة على صعيد الهويّة بغاية دعم التّأويلات المتصالبة لمستقبلنا.
ليس هذا ممكناً إللاّ بالاستقبال المصغي للنّبوّة ولنموّها في سرّ شخصيّة كلِّ واحد، في الصّمت، في الاستماع، في الإلهام.
عنصرة الرّوح الغير متناهية في الحاضر، في جهادٍ حتّى الموت، في التّألّه من خلال العلاقة كل علاقة، الصّوفيّة منها والماديّة.
روحٌ أبعد من الحرف في تراب اليوم الرّطب في جسد الكلمة المُشترَك، العالم.
بتواضع، بصمود، سوف نرفض سياجات الإنتماءات الجامدة، كما أننا سوف نبقى أمناءً لحقيقة التّقاليد في خصوصيّتها وفي علاقاتها المكتملة، والمؤُدِّبة، اُلمعَاقِبَة تارة،ً والمخلِّصة تارةً أخرى.
في أماكن متعددة وبأساليب متنوِّعة تنمو هويّات جديدة لها دور الجسور والمعابر.
أكثر من ذلك، هناك نسيج معلوماتيّ متشابك يكسو العالم ثوباً لغويّاً جديداً ومشتركاً، صورة أخرى ومعبّرة عن مشاركةٍ أكثر فعّاليّة، وأكثر واقعيّة، ألا وهي شركة القدِّيسين.
إننا في ساعة نبوّةٍ جديدةٍ، لا ساعة أنبياء جدد، بل ساعة كلٍّ منّا للمشاركة في النّبوّة.
في هذه السّاعة عندما نلتفت إلـى الوراء وننظر إلى عرض المستقبل فنصاب بتأثّر لا يوصف، ندامة، وتعزية.
الرّاهب بولص