العزيز إيفو
قد تحقّق مشروع هذا الكتاب، وإليك بالدرجة الأولى إنّما يعود الفضل. أريد والحال أن أكلّمك هنا عن ثلاثة مواضيع. الموضوع الأوّل هو شرحٌ وجيز عن هويّتنا وعن طموحنا نحن جماعة الخليل (أيّ إبراهيم خليل الله) الرهبانيّة التي تأسّست في دير مارموسى الحبشيّ العائد للكنيسة السريانيّة الأنطاكيّة. أمّا الموضوع الثاني فيتعلّق بك كونك الشخص المصوِّر. بينما سأتناول في الموضوع الثالث مسألة الشخص المصوَّر على الصعيد النفسيِّ الروحيّ.
أنا من مواليد روما عام 1954، تلميذٌ في مدرسةٍ للآباء اليسوعيّين، ناشطٌ في حركة الكشّاف، صاحبُ موقفٍ سياسيٍّ تقدّميّ، كثيرُ الأحلام، مجنّدٌ في جيش الجبال، مبتدئٌ في الرهبانيّة اليسوعيّة عام 1975 ومهاجرٌ إلى الشرق عام 1977 لخدمة رسالة الكنيسة في العالم الإسلاميّ. اكتشفت خربة دير مارموسى سنة 1982 ولبثت فيها عشرة أيّامٍ في خلوةٍ روحيّة أدّت بي إلى حالة عشق. في ذاك المكان أجد جسدًا لأحلامي وأشواقي الصوفيّة والجماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. إنّه جسد المصارعة مع الآخر، الله، غاية هواي الأوحد، الرحمن. إنّه جسد اللقاء مع الكلمة الأزليّة الخالقة غير المخلوقة لأجل معانقةٍ لا توصف وقبلة تعبّر عن الكلّ وتسكّن الكلّ. إنّه جسدٌ تحييه نفحة النبوّة وتقيمه وتظهره وتقدّمه. ثلاثٌ هي الأولويّات التي طفت على وجه السطح الزَهريّ اللون للصحراء الصخريّة هذه: الأولى هي المطلق الروحيّ في مجّانيّته، حيث لا تنفصل الطاعة عن الاختيار الحرّ… مطلقٌ لولاه لرغبت بموتٍ مطلق! والأولويّة الثانية هي العمل اليدويّ، ترابٌ وصخرٌ، شعيرٌ وزيتونٌ ولوز، نحلٌ وماعزٌ، لحمٌ وجبنةٌ، فخّارٌ ورسوماتٌ جداريّةٌ، عراقيلُ بيروقراطيّة، كمبيوتراتٌ عنيدة، المطبخُ والمراحيضُ والمزبلة... إنّ حبّاً لا يتجسّد ليثير اشمئزازنا! أمّا الثالثة فتكمن في خدمة الضيافة وهي الفضيلة الأسمى في العالم الساميِّ والعربيّ ذي الأصل البدويّ. ولذلك كان جدّنا إبراهيم أكبر الأولياء فقد استقبل الله إذ عرفه في الضيف. منذ سنة 1991 بتنا موجودين هنا على مدار السنة. وبدأت جماعةٌ صغيرةٌ مكرّسةٌ للصداقة الجدّيّة والعميقة مع المسلمين ومع أمّة الإسلام. والصداقة تغيّرك من الداخل وتعجن فيك من جديد العناصر الاجتماعيّة والثقافيّة والروحيّة. فالأمر بحسب تعبير لويس ماسينيون هو أن تضعَ نفسك على خطّ قدر صديقك. إنّنا جماعةٌ رهبانيّةٌ مكوّنةٌ من رجالٍ ونساءٍ من مختلف الكنائس والبلدان. نحتمل غنى التنوّع وزهد الحوار وشطح التناغم. يقوم الراهب بتوحّدٍ في الله، وإنّه لتوحّدٌ يتطلّب ويسبّب في آنٍ واحد تمحورًا فريدًا حوله تعالى. حتّى على صعيدي العاطفة والطاقة، الأمر الذي يرمي الشخص مع عالمه وعلاقاته إلى ما وراء الحالة الطبيعيّة، دون كرهٍ أو فوقيّة، باتّجاه ما يفوق الجانب الزمنيّ من التاريخ في حالةٍ وجوديّةٍ متساويةٍ في الجوهر مع الإيمان.
القراء الأعزاء، هذه الطبعة باللغتين العربية والإيطالية، وقريبًا ستصدر طبعة أخرى باللغتين العربية والفرنسية، للمعلومات الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني أدناه |
SOTTO LA TENDA DI ABRAMO - Deir Mar Musa el- Hadasci" fotografie di IVO Saglietti, con una lettera di Padre Paolo Dall'Oglio.
Formato cm 24x28
Fotografie 46 in bianco e nero
Pagine 96 Testo in Arabo e in Italiano Brossura con bandelle Prezzo di copertina in libreria Euro 42,00 PREZZO SPECIALE RISERVATO AGLI AMICI DI MAR MUSA EURO 35.00 Per acquistare il libro al prezzo speciale questo va ordinato direttamente a Peliti Associati s.r.l V.le Beata Vergine del Carmelo, 12 00144 Roma tel + 39 065295548 int 25 a mezzo E mail agenzia@peliti.it via fax + 39 06 5292351 e potrà essere ritirato direttamente presso l'editore o spedito contrassegno (+ euro 2,50)
o spedito senza ulteriori spese previo pagamento a mezzo bollettino di c/c postale , conto n. 19889005 intestato a Peliti Associati o con assegno. |
تصبح العفّة خصاءً حين تفتقد الرؤيا. نرغب بعفّةٍ متواضعةٍ، جريئةٍ، أمينةٍ في التعبير عن تسامٍ ليس الغباءُ علّتُه وعن حنانٍ يتجاوز الحاجة وعن جذريّةٍ من غير عنف في خبرة أفق يسوع الناصريّ والشهادة له. لذلك يكون الإخوةُ والأخواتُ بالدرجة الأولى رهبانًا وراهباتٍ متوحّدين ومتوحّدات. نختار أن نشكّل معًا جماعةً واحدةً فالحياة الرهبانيّة أيضًا، بكونها إنجيليّة، تتطلّب حبّ الله وحبّ القريب، وبالتالي يبقى الأنموذج الأوّل والأخير لحياتنا مرتبطًا بالرمزيّة العرسيّة، أي بالتحاور بين السرّ المذكّر والسرّ المؤنّث. إنّنا نتنازل عن الحياة الزوجيّة، لا عن عمق العلاقة بين الأشخاص حيث تنعكس الشركة الإلهيّة.
في الصورة الجماعيّة يظهر أوّلاً من اليسار يعقوب من حلب وهو رفيق الأيّام الأولى، إنّه الآن كاهن رعيّة القريتين وهي واحةٌ على طريق تدمر. من بعده يانس من سويسرا، كان هذا يسير حاملاً حقيبته على ظهره قاصدًا سمرقند وفي هذا الوادي التقى بيسوع الناصريّ وأعجب كلٌّ منهما بالآخر. الثالث من اليسار هو بطرس من الحسكة، الشخص البسيط والعزيز جدّاً، إنّه المختصّ بصنع الجبنة. عن يساري رمونا من دمشق مع أنّ أهلها من الجولان. كانت قبل أن تترهّب مسؤولةً عن فرقةٍ كشفيّة وموظّفةً ناجحةً في وزارة التربية. من بعدها هدى وهي مهندسةٌ زراعيّةٌ من دمشق أمّا أصل والديها فمن قريةٍ جبليّة على الحدود اللبنانيّة. إنّها في دير مارموسى منذ عشر سنوات وقد باتت ركنّا أساسيّاً في الجماعة. الأوّل من اليمين هو جهاد من موارنة الساحل السوريّ وقد أصبح صديقًا لكثيرٍ من المتصوّفين المسلمين في دمشق القديمة. في زمنٍ تالٍ لهذه الصورة دخل الجماعة فريدريك من فرنسا وديما من حمص. تنتمي جماعة الخليل هذه قانونيّاً وبالتزامٍ إلى الكنيسة الجامعة. ويتحقّق ذلك واقعيّاً من خلال الانتماء إلى الكنيسة المحلّيّة أي السريانيّة الكاثوليكيّة وفي الوقت الحالي تقوم الكنيسة بعمل تميّيزٍ عميقٍ في معاني هذه المؤسّسة الرهبانيّة الجديدة.
منذ عصر النبيّ محمّد (ص) لعبتِ الأديرة النصرانيّة في البراري دورًا اجتماعيّاً وروحيّاً معروفًا كان على الدوام موضع تقديرٍ واحترامٍ في العالم الإسلاميّ. أمّا نحن فقد رغبنا أن نعود إلى اكتشاف دور الضيافة وأن نعيد طرحه بشكلٍ أكثر وضوحًا ووعيًا حتّى باتت خيمة الاستقبال مقرّاً رمزيّاً للّقاءِ مع سكّان المنطقة الّذين يأتون عائلاتٍ ويجلسون في الطبيعة عند مدخل الوادي لتناول الطعام أيّام العطل.
ننظّم من حينّ إلى آخر لقاءاتٍ ما بين الأديان حول موضوعٍ ما باحثين عن التفاهم المتبادل ومشتركين في نفس الرغبات بالديمقراطية والإنصاف ومختبرين معًا فعاليّة البعد الروحيّ في أوقاتٍ من الذكر والدعاء المشترَكَين. يقودنا هذا إلى ردّ الزيارة والذهاب من جانبنا إلى المراكز الإسلاميّة والمساجد. إنّما الجوهريّ بالنسبة لنا جميعًا هو أن نشعر بأنّنا نطفئ ظمأنا عند ينبوعٍ روحيٍّ واحدٍ في وقتٍ يقدّم كلٌّ منّا بصراحةٍ شهادته لتقليده الدينيّ الخاصّ. هكذا تكوّنت دائرةٌ من الصداقة الإسلاميّة المسيحيّة تملأ قلوبنا رجاءً بمستقبلٍ تختلفُ صورَتُه عن الأخبار التي تبثّها المحطّات التلفزيونية. ثمّة إمكانياتٍ أكبر بكثيرٍ للعمل، بيد أنّ الطاقات محدودةٌ، في حين أنّ الشيء الأكيد هو الرغبة القويّة والمتبادلة في اللقاء. هذه الشهادة نراها تصل عبر وسائل الإعلام إلى عدد كبير من الناس فيتضاعف على هذا النحو مداها الرمزيّ.
نعتقد، في دير مارموسى، أنّ للإسلام دورٌ فريدٌ في عالم اليوم. ونظنّ أيضًا أنّه ما من دورٍ، ولا حتّى النقديّ يمكن أن يُلعَب دون تفاعلٍ متبادلٍ وشركةٍ بين الأدوار المختلفة. من جهةٍ أخرى نرى أنّ لنا دورٌ خاصّ لكوننا تلاميذًا، عربًا أو مستعربين، للمسيح عيسى ابن مريم ويبدو لنا بالمقابل أنّ ذلك يصل بنا إلى لعب دورٍ مميّز في الكنائس وفي العالم المسيحيّ على الصعيدَين المشرقيّ والجامع. أرى من ثمّ وبحسب ما أعطي لي أن أدرك، أن للإسلام دورُ تشكيل كتلة رفضٍ وصمودٍ أمام الجبروت "المسيحيّ" المتصاعد بأشكاله المختلفة وبما فيها العلمنة اللادينيّة والعولمة. فالإسلام يوسّع نفس الدور الاجتماعيّ الّذي لعبه الدين اليهوديّ عبر الأجيال أيضًا ضدّ النصرانيّة داخل العالم الثقافيّ نتاج الأصل الساميّ والكتابيّ المشترك. فالإسلام يساعد من ثمّ في إصلاح كلّ موقفٍ تجسّديّ وحلوليّ ينتهي إلى نسيان العلاقة مع المتعالي المطلق والمنزّه عن كلّ وصف. أخيرًا يمثّل الإسلام شهادةً لا تُجتنَب ضدّ كلّ انفصامٍ وكلّ ازدواجٍ يفرّق بين ميدان العبادة وميدان الدنيا كما بين الدين والسياسة. لأنّه يسعى إلى التوحيد بحنينٍ مبارك وغير محدود. من هنا كان الاهتمام الإسلاميّ الكبير بالعدالة والإنصاف مع المطالبة المقدّسة بحقّ المستضعفين. لا ننسينّ أخيرًا أنّ الإسلام قدّم وما يزال يقدّم لقسمٍ كبيرٍ من سكّان الأرض إطارًا حضاريّاً وروحيّاً ملموسًا وفاعلاً وديناميكيّاً وإن يكن بالطبع قابلاً للنقد والإصلاح.
نريد أن نحمل مع الإسلام المعاصر آلامه وتناقضاته في تضامن جذريّ دون أن نتجاهل واقع انتمائنا إلى العالم المسيحيّ الخاضع لسيطرة الغرب. كما نرغب أن نحمل في الصلاة وفحص الضمير الكارثة الحاليّة التي تشكّل القدس رمز فضيحتها الأفظع.
هلمّ الآن يا إيفو إلى موضوعنا الثاني، إلى شخص المصوِّر. إليك... لقد وقعتْ صورُك من نفسي موقعًا حسنًا وكذلك الأمر بالنسبة للجماعة. إنّها لَحقيقيّةٌ وإنّنا لنجد أنفسنا عبرها من جديد. بل هي تكشف لنا ذواتنا من جديد. إنّ التصوير بالأبيض والأسود لعظيمٌ في الاجتياز إلى ما وراء الوهم وتمزيق حجاب الظاهر. إنّ هذا النوع من التصوير ليمثّل سيرورة تجريدٍ وتفكّر.
بيد أنّ ما نقدّره فيك وبالدرجة الأولى هو حنانك الكبير، المتألّم بالتأكيد والمتضامن مع المعاناة والكفاح الّذين صوّرتهما في كلّ مكان عبر السنين العديدة. لا لاختلاس النظر بل بدافعٍ من التضامن في الكفاح.
أرغب أن أركّز على جانبين من جوانب صورك يُسرّان قلبي: الأيدي أوّلاً. لست أدري كيف تحصل على ذلك. يبدو لي وكأنّما الأيدي تُقبِلُ إلى لقاء المُشاهِد مستقبلةً أو نشيطةً أو بكلّ بساطةٍ هادئة. ولكنّها لم تكن قطّ مألوفة الموقف أو مجرّد إضافات. إنّ الأيدي في صورك لتعبّر عن التزامك مهما كلّف الأمر في سبيل إنسان التاريخ. أمّا الجانب الثاني فهو موضوع العمل والعمّال. إنّني لأشكر لك أن عكست لنا أهميّة وحتميّة كوننا معًا، رهبانًا وموظّفين، نشترك في جماعةٍ واحدة . إنّك تقدّم لي هنا أيضًا الفرصة السانحة كي أقول إنّ دير مارموسى ليس مكانًا للعبادة والعمل فحسب بل هو بالأحرى مكانٌ يرغب النشاط فيه أن يعطي جسدًا للصلاة والصداقة ويسرعُ التأمّل فيه إلى التجسّد في المادّة. وبهذا المعنى، فإنّ كوننا نعيش مع علمانيّين وعلمانيّات، آباء وأمّهات، مع أمين ومروان ومروة ومهيار وحسين وعلي ومجد.. هو أمرٌ يعطي دورنا الرهبانيّ إطاره الأوسع والأصحّ.
إنّ أسلوبك في التصوير هو نوعٌ من حياةٍ مشتركةٍ في النور العاديّ للأيّام العاديّة، منذ الصباح إلى المساء ووصولاً إلى شموع الليل. دونما مظلّاتٍ أو إضاءاتٍ اصطناعيةٍ أو "فلاشات". إنّها لرزينةٌ آلة تصويرك لا صوت لها ولا ضجيج. وما ذلك من أجل سرقة الصور بل من أجل حسن استقبالها بلطفٍ واحترام. إنّك لا تصوّر كصحفيّ بل كرفيق الطريق الذي يضحي صديقًا . لذلك كان هذا الكتاب بحقّ كتابَك كما هو كتابُنا. ولقد وددنا لو كان في الكتاب صورةً ذاتيّةً جميلةً لك. صورةُ وجودك معنا. لو أنّ هناك صورةً لأحاديثنا المتبادلة معًا وكأنّنا نلّخص عصرًا... أوَليس هذا بالضبط هو ما يتحدّث عنه الكتاب؟!
يُطرَح السؤال: ما الّذي جعل إيفو يهتمّ بديرٍ في الصحراء؟ هناك بالطبع ماريو بليتي الّذي كان يريد أن يقدّم هديّةً لفرانشيسكا وهي من مشجّعي دير مارموسى منذ سنوات، وهديّةً لي، أنا صديقه ورفيقه في المخيّمات. إنّ ماريو الّذي اقترح عليك القيام بهذا العمل لإنسانٌ صاحبُ حدسٍ ولقد أحسّ بأنّك الشخص المناسب. لقد دخلتَ خلسةً وكأنّما على أصابع قدميك إلى حياتنا حتّى أضحيتَ من أهل البيت.
تبرهن صورك على كونك لم تأخذ موقف من يبحث عن الجمال من أجل الجمال ولا من يريد أن يوثّق. بل لقد طرحت معنا ذات تساؤلاتنا بخصوص معنى مآتينا اليوميّة كوننا مؤمنين كما كوننا مساكين. عرفت كيف تصوّر رجاءنا من وراء ألمنا. نشكرك.
لقد أعدت طرح مسألة الإيمان ومسألة شرعيّته بالنسبة على إدراك الحقيقة كما بالنسبة إلى المحتوى الوجوديّ والسياسيّ له. كتابك أيّها العزيز إيفو هو عربون صداقتنا وشاهدٌ فيما بيننا. أشكرك فوق كلّ شيءٍ على أنّك لا تبني في تصويرك علاقةً مع الأشياء بل تساعد على إظهار الأشخاص. لقد ساعدتنا بهذا المعنى على تأسيس الجماعة الرهبانيّة أيضًا في علاقتها مع عالمٍ واسعٍ طرح لنا، من خلال نظرك، أسئلةً غير شكليّةٍ وغير مبطّنة.
نصل إلى القسم الثالث. إنّها لتقليعةٌ ) أن ينزعج الناس من فضول وتدّخل المصوّرين الّذَين هم فيهما راغبون خفيةً وطامحون ضمنًا. إنّ اهتمام وسائل الإعلام بالمرء لمخدّرٌ عاطفيٌّ خطير. هل من الطبيعيّ أن تعرض جماعةٌ رهبانيّةٌ، وإن منفتحةٌ ومضيافةٌ، نفسها بهذا الشكل؟ هل هو أمرٌ صحيحٌ، وقد وصلنا إلى درجةِ تمثيل أدوارنا في فيلمٍ حقيقيّ؟!
كنت شابّاً غِرّاً حين ذهبت إلى لورد، محجّ السيّدة العذراء في جنوب فرنسا، تسلّلت هناك إلى البركة المقدّسة المخصّصة لخدمة المرضى العاجزين، حيث عشت خبرة صلاةٍ قويّة جدّاً. ثمّ وصلَ إلى المكان على حين غرّة وبإذنٍ من رئيس المحجّ فريقُ تصويرٍ تلفزيونيّ يريد أن يصوّر كلّ شيء. احتججت بقوّة قائلاً إنّ هذا المكان هو قدس أقداس الألم وعلى الفضوليّة أن تبقى خارجًا. أمّا أعضاء الفريق الذين تنكّروا في زيّ ممرّضين فقد مضَوا في التصوير، وعاد مشلولٌ من ألمانيا إلى البركة الباردة محبّةً في الله وعلى رجاء أن تراه والدته عبر الشاشة. أمّا اليوم فأنا أعتقد أنّ الحوار لم يكن كافيًا في ذاك الوقت. لقد شعرنا أنّنا عومِلنا معاملة أشياء جامدة لا معاملة بشر وشعرنا بالاغتصاب المعنويّ لمشاعرنا الأكثر عمقًا. لم يشرح لنا أحدٌ أنّها كانت فرصةٌ للتواصل والحوار مع الكثير من الناس من خلال تلك الصور. ولم يقل لنا أحدٌ إنّ المطلوب ليس أن نتجاهل آلة التصوير بل أن ندخل من خلالها، بالصوت والصورة، إلى بيوت الناس لكي ندعوَهم إلى المجيء هم أيضًا حتّى نحمل بعضنا أثقال بعض. إنّه لأمرٌ مصطنعٌ أن تتجاهلَ العدسةَ. أمّا أن نستخدمها معًا فهو ما يبدو الأكثر صدقًا. إنّني ألاحظ وأرى عن قربٍ كيف أنّ البابا يوحنّا بولس الثاني لا يمثّل دور المصلّي كما أنّه لا يتصرّف وكأنّه بعيدٌ عن آلة التصوير حين يقيم صلاةً منقولةً على الهواء مباشرةً. لكنّه يصلّي فعلاً أمام آلة التلفزيون خالقًا جماعةً مؤمنةً مع كلّ المشاهدين ولو لفترةٍ وجيزةٍ عبر الأقنية المختلفة.
عندما يقوم الكاهن بالاحتفال وحده بصلاة القدّاس مع الملائكة والقدّيسين وفقراء الأرض، أو عندما يرفع كأس الخلاص أمام آلة التصوير الفوتوغرافيّة أو التلفزيونية لخدمة بضعة ملايين من المشاهدين فإنّ المفروض ألا يتغيّر أيّ شيءٍ في كلتا الحالتين. بيد أنّ هذا الكاهن نفسه يبحث في الحالة الثانية وفي عين العدسة السوداء عن نظرة كلّ هؤلاء الناس ليتبادل معهم كلمةً ليست في النهاية كلمته.
عندما كنت شابّاً اتّهمني صديقٌ بحبّ الظهور. وأظنّ أنّه كان على صواب. ولقد يرى هذا الصديق إذا ما وقع على هذا الكتاب اليوم، أنّني لم أتغيّر كثيرًا، ولقد يذهب في قوله إلى أنّني أسّست جماعةً رهبانيّةً تحبّ الظهور. إنّني وبعيدًا عن ذاك العذر الذي كان لديّ عندما كنت مراهقًا وغير واعٍ، أعتقد أنّ حبّ الظهور هو تعبيرٌ عن عدم الثقة بالذات ونحن بحاجةٍ كبيرةٍ لاعتراف الآخرين بها. ففي إظهاره ذاته يبحث المرء عن تأكيد قيمة وجوده في العالم ودوره فيه. يبدو لي مع مرور السنين أنّ حبّ الظهور عندي قد تطوّر بقدر ما لم يبقَ الأنا متمحورًا حول ذاته لأنّه بفعل النعمة والتوبة قد خرج من مركزيّته باحثًا عن حقيقته الخاصّة في العلاقة مع الكائن الفائق والعلاقة ما بين الأشخاص والعلاقة ما بين الأشخاص والعلاقة الكونية مشتركًا في التقدمة الفريدة والقربان الأوحد عندئذٍ عوض أن يظهر نفسه يرغب الآن أن يظهر العلاقة حتّى يشترك الجميع ويعجبوا ويفرحوا بها. إنّه التجلّي لا المجد الباطل، والإعجاب لا العجب. إنّ تجلّينا لم يزل مشوبًا ولدينا الكثير ممّا يحتاج إلى ستره.. ولكنّ الربّ صالحٌ وبإمكاننا أن نعبّر عن حبّنا له من خلال الصور أيضًا. يشكّل الإظهار والعرض وخلع الأقنعة والبقاء في موقفٍ روحيٍّ ونفسيٍّ من التعرّي أمام آلة التصوير وأمام المصور والمتفرّجين جميعًا، فرصةً للتعبير عن العشق المتبادل وإعلانه الصارخ من فوق السطوح والتبشير به في الساحات بالرغم من خطر الضياع الكبير. إنّنا نعرض أنفسنا، نحن المترهبين المكرسين، عندما يبدو لنا أنه ليس من وسائل أخرى قادرة على جذب الدعوات الرهبانيّة. أمّا يسوع الناصريّ فقد رُفِعَ ليجذب إليه الجميع من أعلى خشبة العار.
يبدو لي أن العالم يحتاج إلى الوعظ. ولكنّه شبع من الكلام ولسوف يشبع قريبًا من الصور أيضًا. عندئذٍ لا بدّ من العودة إلى الوعظ بالكلمة والصورة ترافقهما من جديد الآيات الخلاصيّة من أسرارٍ وعجائبٍ وحياةٍ إنجيليّةٍ متواضعةٍ وبسيطةٍ ومضيافة. إنّ أوّل من يحكم عليه الوعظ هو الواعظ نفسه فصورك إذًا تمثّل لنا نداءً وإنذارًا كما تمثّل برنامجًا وتشجيعًا أيضًا.
صعد سمعان السوري في القرن الخامس على قمّة العمود بجوار حلب وبقي هناك مدّة عشرات السنين حتّى الوفاة. أتى الناس بالألوف ليتفرّجوا عليه وهو لم يزل على أعلى العمود ومن هناك كان يعظ ويصلّي، فسجّل سمعان نجاحًا إعلانيّاً أكيدًا وكثر من قلّده في زمانه. وإنّي من القدّيس سمعان هذا طلبت في عام 1981 أن يعرض لي من أعلى عموده أولويّات كنيستنا في مسلخ الشرق الأوسط هذا. أمّا سمعان فهو لم يضع نفسه على أعلى العمود على غرار الأباطرة الرومان بل وضع بالأحرى علاقته الروحية مع الله وإنّها لتلبيةٌ ونَعَمٌ تستحقّ أن تُعرَفَ وتُعرَضَ ويُبَشَّرَ بها!
فضلاً عن خطر أن نعرض دون حياءٍ نقائصنا ثمّة خطرٌ آخرٌ هو أن تزداد العلاقة قوّةً إلى أن تدفع بنا إلى الفضيحة والاستشهاد الذي يشكّل للعلاقةِ الفرصةَ المكشوفةَ لتظهَرَ نهائيّاً. بيد أنّه لا بدّ في الاستشهاد من وجود من يقوم بالعمل القذر للجلاّد ) والخائن.. وهو أمرٌ لا نتمنّاه بطبيعة الحال إذ كيف يمكن حينئذٍ أن نحافظ على الوداعة وتواضع القلب؟
تتكفّل الحياة مهمّة إذلالنا بما يكفي لكي نحصل على الخلاص أمّا الآن فيبقى لنا كتابك الجميل هذا.
دمتَ لصديقك.
بولص.